بشير عاني.. حوذيّ الجهات الذي قتلته زاويتها الضيّقة

أن تكتب عن بشير عاني كأنْ تقف على عودي ثقاب مشتعلين، استعرت هذا التشبيه من ثالث شلّتنا إبراهيم الجبين، أمّا أنا فكان يحلو لي أن أصفه بإشارة استفهام تمشي على قدمين، تتعب تحتنا شوارع دير الزور ولا نتعب، كان مسكوناً بجنّي يدعى العمل، حتى خلال سهراتنا المنتظمة في مرسم القتيل الآخر وأبي القتيل الآخر عبد الجبار ناصيف، لم يكن بشير يسمح للوقت أن يمرّ دون عمل، عذراً فلا أستطيع الكتابة عن شاعر شاطرني الأرصفة والشوارع، وقاسمني الماء والقهوة في مقهانا المفضلّ إلا بحميميّة لا تقبل رتابة قواعد العمل الصحفي الذي جمعنا معاً منذ “الدومري” و “بقعة ضوء” حتى “منظمة شعراء بلا حدود” التي ضمتنا معاً فكنت أقول لنفسي إنّي مصاب بمتلازمة بشير عاني رغم كلّ خلافاتنا الفكريّة.
كان بشير محارباً ولم يكن شاعراً فقط، إصراره العجيب على أن «الشعر هو المرأة التي تنام عندما تستيقظ أنت»، جعل منه علامة استفهام في مدينة تكره علامات الاستفهام والتعجب، كان يقول: «كي تكون شاعراً عليك أن تظلّ نائماً». فهو الأحلامجي من الطراز الأول، ولكنّ أحلامه الشعريّة ظلّت محظورة حتى التسعينيات؛ حين تمكن أبناء الماغوط وعلى رأسهم بشير من كسر القمقم والخروج منه، فالحياة نفسها كانت حليفة لهم؛ فأصدر دواوينه ” رماد السيرة” ثمّ “وردة الفضيحة” ثمّ “حوذيّ الجهات” تباعاً مع “براري” ابراهيم الجبين”، وأصدر النثريون دواوينهم تباعاً وقلبوا المشهد الثقافي في دير الزور رأساً على عقب، بعد ذلك بسنوات كان الخمسيني الضاحك قد أصبح “الدينامو الثقافي” للمدينة؛ فقد أسس أولّ الصحف الإلكترونية في الدير باسم “آزورا” وشكّلنا معاً أولّ تجمّع لأدباء دير الزور والرقة والحسكة خارج “اتحاد الكتّاب البعثيين” تحت اسم «التجمع الفراتي للثقافة والفنون»، ولكن هذا لم يشبع المرأة التي تنام عندما يستيقظ هو؛ فجال في المنطقة الشرقية؛ ديرها وحسكتها ورقتها وهو يحاول لملمة المساءات ليخبزها في رغيف واحد هو الشعر.
لا يمكن اختزال وصحفيّ شاعر مثلك بكلمات يا بشير، ولا يمكن للعبارة مهما حاولت أن تقلّ وتدلّ اختصار آذار الدامي سنة 2016، عندما أكل الجوعُ لحمَ روحك أنت وطفلك إيّاس، جوعٌ يحاصرك أنت ووحيدك في مدينة تآمرت شوارعها وأرصفتها على قدميك، أمانيك ماتت قبل ذلك، رحلت “أماني” أمّ إيّاس التي تؤثرني عليك بالفستق وتدع لك البزر، بناتك في الشام ينتظرن أباً وأخاً لا بدّ أن يفلتا من عقاب الجوع، كيف قسا قلب الدير عليك لتتركك تخرج من رحمها إلى الذين ذبحوا ابنك أمام عينيك ثمّ ذبحوك فوقه فقتلوك مليون مرّة قبل أن تموت، وقتلوا بناتك منذ ذلك اليوم حتى تفارقا الحياة، كيف قسا قلب الدّير عليك يا بشير؟
ألم تقل: نقول “هنا يستريح الغريب”..‏
فلا نستدلُّ إلا على جثث الرفاق‏
نقول هنا.. بعد طعنة في الظهر..‏
أو طعنتين..‏
هنا.. بعد أن نمشي وراء جنازة هذي الأرض أو تلك..‏
هذا الشعب أو ذاك..‏
هنا يستريح الغريب‏
هنا.. بعد أن تكلّ عصا الطاغية‏…
فهل استرحت الآن؟ لا أحد يدري ماذا وراء الغياب سوى الغائب، السنوات مطويّات بيد الجهات يا “حوذّيّ الجهات” الذي قتلته زاويتها الضيّقة.
محمد بشير العاني شاعر وصحفيّ سوري من مواليد دير الزور 1960، مهندس زراعيّ.
ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان يوم الجمعة 11 آذار 2016 أنّ “تنظيم الدولة الإسلامية” “داعش” قتله ذبحاً هو وابنه إيّاس خلال محاولتهما الفرار من حصار التنظيم لدير الزور.
عقبة الخلّوف الحسن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار