أديبنا اليوم يُحدِّثنا ا بعيونه الخضراء التي تزيَّنت بعد التحرير، فهو كما عينيه يحمل قلباً أخضر يشهد له بذلك كلُّ مَن عرفه وعايشه وعامله، نلتقيه اليوم ليبوح لنا بمفردات الحبِّ الفراتيّ الأبديّ الذي طالما تغنّى به وغنّى له طوال فترة بُعدِه عن مدينته الخالدة.
نلتقيه ليبوح لنا بأسرار تُذكر لأوَّل مرَّة بعد سقوط الطّاغية الذي عانى منه كلُّ السوريّون، وعانى منه شخصيًّا، ولا تزال ذاكرتنا تختزن مشهد اعتقاله من صحيفة الفُرات من قبل الأمن العسكريّ والذي كان يتزعمه المقبور (جامع جامع)، وكيف مكث في منفردة فرع فلسطين شهراً كاملاً حتّى تمَّ الإفراج عنه، ولحظة وصوله إلى مدينته من دمشق بعد الاعتقال وكيف استقبلته المدينة بأكملها لتعبِّرَ له عن حبِّها لها.
الكثير مَنْ يسمعون عن سراج الجراد، ولكنَّ الأكثر مَن يجهلون من هو هذا الأديب الفُراتيّ الذي ارتبط اسمه بكبار أدبائها كالفُراتي والرحبيّ وعبد القادر عيّاش وسعد صائب وغيرهم.
بديات رحلة ثقافية مشاطئاً للفرات…
يبدأ الجراد حديثه منذ طفولته التي قضاها على ضفاف النهر العتيق حيث يشاطئ بيتهم الضفاف فيقول: أنا ابن الفُرات الذي نشأت وترعرعتُ على ضفافه وشربتُ من مياهه حتّى تملَّكني بكلِّ جوارحي، وفي أسرة ديريَّة لأبٍّ مُثقف يحوي بمنزله مئات الكتب، تربيتُ على عشق المطالعة وشراء المجلَّات والكتب الفكريَّة والعلميَّة والدينيَّة، حتى بدأتُ رحلتي في النشر وأنا ابنُ السَّابعة عشرة من عمري، فنشرتُ في مجلة البيان الإماراتيَّة، والوحدة المغربيَّة، ثمَّ تفرغت لدراسة الأدب العربيّ في جامعة دمشق والفُرات، لأصبح مُدرّسًا في مدارسها.
الولادات الأولى على الورق….
طبع لي اتّحاد الكتاب العرب أوَّل ديوان شعريّ لي بعد تخصصي بأدب الأطفال وهو (أغاني ميسون)، ثم طبعت مجموعة قصصيَّة بعنون (هكذا تُغنّي الطبيعة)، وطبعت لي الهيئة العامَّة السوريَّة للكتاب روايتي لليافعين (رحلة البحث عن السّعادة) التي فازت بجائزة وزارة الثقافة للأدباء الشباب في العام 2009، وفي الوقت نفسه بدأت رحلتي بدخول مديريَّة الثقافة وصعود منابر المراكز الثقافيَّة في المدن والقرى التابعة للمحافظة والتي كان يسيطر عليها الأدباء البعثيّون ولا يسمحون لأحد من الشباب المبدع بارتقائها، ولكن مدير الثقافة وقتها الأستاذ المبدع (عبد القادر سلامة) لمس فيَّ مع كثير من الشباب مثل الشّاعر عقبة نظام الدين والشاعر خلف عامر والدكتور قاسم القحطاني والباحث ياسر شوحان، إبداعاً مميَّزاً فأوعز إلى المركز الثقافية باستقطابنا والتواصل معنا، فثارت ثائرة البعثيين واشتكوا علينا ولكنَّ مساعيهم باءت بالفشل لأنَّنا أثبتنا جدارتنا وقدرتنا على ارتقاء هذه المنابر، ليأتي بعدها فوزي بجائزة الشّاعر الفُراتي الأولى على شعراء محافظتي بالمركز الأوَّل عن قصيدتي (بكائيّات للدير العتيق) التي قال عنها الشّاعر فاضل سفّان بأنها ملحمة فراتيَّة شعريَّة.
القليل من يستطيع أن يحمل مدينة داخل روحه….
يعدّ الجراد من أهمّ من اشتغلوا على توثيق مدينة دير الزور فكريّاً، وهو من القلّة التي اتخذت من تدوين المدينة والمحافظة واجباً مقدساً، سألناه: عرِّفنا عن تجربتك في التوثيق والتدوين لتراث دير الزَّور؟
قصَّتي مع التوثيق عتيقة جداً، إذ بدأتُ مع العالم الآثاري الأستاذ ياسر شوحان بجمع تراث الباحث الفُراتيّ عبد القادر عيّاش، وتحويل كتبه إلى ملفّات (Pdf) خوفًا عليها من الضياع، وبعد اندلاع الثورة السّورية ضد الطّاغية بشّار الأسد والتدمير الممنهج للمدينة، أصبح هناك خوفٌ كبير على تراثها، فقمت بجمع ملفّات الشّاعر محمد الفراتي كاملة، وكتابتها بيدي وشرحها وتحقيقها وضبطها ونشرها في الهيئة العامَّة السّوريّة للكتاب، ورفض القائمون البعثيّون نشرها إلا بعد أن يضعوا أسماءَهم قبل اسمي، فوافقت طمعاً في نشرها والحفاظ عليها، وقمتُ بتأليف كتاب عن الباحث الفُراتيّ العلّامة عبد القادر عيّاش، وكتاب عن الأديب الفُراتي المترجم سعد صائب وكتاب عن الأديب عبد الرزّاق جعفر، وأعمل الآن على تأليف (معجم الشعراء الفُراتيين) الذي يضم سيرة وأشعار المئات من المبدعين الديريين الذي تناثر إبداعهم في الصحف والمجلّات العربيّة والمحليَّة والمشاريع البحثية كثيرة لا تنتهي والقائمة تطول.
مدينة تذهب في الشّتات.. واستعادتها واجبٌ ولو على الورق..
– ماذا تحدِّثنا عن هجرتك القسريَّة من مدينتك وأثرها عليك؟
أصعب شيء واجهني في حياتي هو ابتعادي عن مدينتي والفُرات، شعرتُ وكأنَّ قلبي يُقتلع من مكانه، إذ كنتُ أعيش غربة روحيَّة حقيقيَّة في دمشق وخاصَّة بعد أن تمَّ سجني فيها لمدَّة شهرين وتوقيفي عرفيًّا، وأصعبها كان اعتقال أخي الحبيب (ساهر جراد) وإيداعه في سجن صيدنايا سيئ الصيت، وعدم قدرتنا عن معرفة أي شيء عنه طوال (11 سنة)، وبعد سقوط الطّاغية والبحث عنه في السجلّات تأكَّد لنا استشهاده على يد أعداء الإنسانيَّة مثل مئات الألوف من السوريين الأبرياء، وإن خلت كلُّ السجون والمعتقلات، ولكنني سأظلُّ أنتظره بوردتين وقبلة.
الجراد في سطور قليلة:
سراج أحمد الجراد، من مواليد مدينة دير الزور عام ١٩٧٣، يحمل الإجازة في الأدب العربيّ، متخصّص بأدب الأطفال (قصّة- شعر-رواية-نقد) له العديد من المؤلّفات منها:
– أغاني ميسون ،شعر أطفال، اتحاد الكتاب العرب .٢٠١٠
– هكذا تغنّي الطبيعة، مجموعة قصصيّة للأطفال، ٢٠١١
– رحلة البحث عن السّعادة، وزارة الثقافة ، ٢٠١٣
– حبيبتي يا شام ، شعر أطفال، اتحاد الكتاب العرب، ٢٠١٨
– مذكّرات رغيف، قصَّة للأطفال، الهيئة العامة السورية للكتاب، ٢٠١٨.
– الأعمال الكاملة للشَّاعر محمَّد الفراتي، جمعاً وتحقيقاً وشرحاً وضبطاً، الهيئة العامَّة السّوريَّة للكتاب 2020م.
– حائز على العديد من الجوائز العربية والمحلية بمجال أدب الأطفال.
– عمل مشرفاً ومحرِّراً ثقافيّاً ورئيساً لقسم التدقيق اللغويّ في صحيفة الفرات.
– ينشر في العديد من الدوريّات العربية والمحليّة (ماجد، العربي الصّغير، براعم الإيمان، توتة توتة، أحمد، أسامة، شامة، قنبر).
حوار – مهدي الراوي