يحتفل السوريون في كل عام بذكرى عزيزة على قلوبهم جميعاً، ألا وهي جلاء آخر جندي فرنسي من سورية. هذه الذكرى تنمي لدينا مشاعر الفخر والاعتزاز والايمان بقدرات الشعب، وتعطينا درساً من دروس التاريخ بأن الاحتلال لابد أنه زائل طالت الأيام أو قصرت.
لقد استطاع السوريون بفضل اصرارهم وتكاتفهم وتضحياتهم، طرد المحتل الفرنسي لتكون سورية أول دولة عربية تنال استقلالها، فكانت نبراساً اهتدت به باقي الدول في مسيرتها نحو التحرر. أما السوريون فقد انطلقوا لمساعدة إخوانهم العرب والقتال الى جانبهم في معارك التحرر والشرف.
وكان أولى ثمرات الجلاء تأسيس الجيش العربي السوري في الأول من آب ١٩٤٦، والذي لعب دوراً هاماً في الحياة السياسية السورية بالإضافة لدوره الوطني والقومي. أما الثمرة الأخرى للجلاء، فكانت الإعلان عن تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في السابع من نيسان عام ١٩٤٧، ولا مجال هنا للحديث عن الدور الكبير الذي لعبه هذا الحزب في تحقيق الوحدة مع مصر، وفي رسم معالم بناء الدولة السورية التي تم استهدافها لسنوات طويلة، لكنها بقيت وصمدت ورسخت بفضل تضحيات شعبها.
نحتفل اليوم وقد تحوّل “ربيعهم العربي” إلى خريف يتساقط فيه قادة العدوان على سورية كتساقط أوراق الخريف. بعد أن استطاعت سورية إفشال أية محاولة لعزلها، أو الالتفاف على دورها المحوري في المنطقة، فسورية كانت ولا تزال مفتاح المنطقة، وبوابة الحل فيها.
لقد أرادوا تحويل سورية إلى دولة فاشلة باستهدافهم مفهوم الدولة السياسي والبنيوي. لذا يجب العمل على إعادة الاعتبار للدولة والمؤسسات. فالحرب التي نواجهها تستهدف كل مقومات وجودنا من بشر وشجر وحجر. فتنظيم داعش الإرهابي صنيعة أمريكية صهيونية وهو ينفذ أجندتهما في المنطقة، وما التحالف الدولي المزعوم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلا تحالف إعلاني قدم الدعم والعون لتنظيم داعش الإرهابي في كثير من المناطق.
أرادوا الفوضى في سورية لإضعافها، وتحييدها عن خطها المقاوم، باستخدام قوى ظلامية تحاول أن تحكم سورية… سورية التاريخ…. وهم خارج الزمان والمكان… قوى ذات بعد ماضوي أرادت رسم مستقبلنا بأدوات ماضيهم. فمحاربة الإرهاب لا يمكن أن تكون على يد دول ساهمت في إنشاء التنظيمات الإرهابية ودعمتها لوجستيًّا وماديًّا ونشرت الإرهاب في العديد من دول العالم.
لقد أكّدت سورية قدرتها على الذهاب حتى النهاية عند اشتداد الضغوط والتهديدات، ما جعل قوى الهيمنة تشعر بقوة الموقف السوري وثباته وتتراجع أمام هذا الموقف. وإن موقف روسيا الاتحادية وإيران والصين ودول البريكس عموماً، ودول منظمة شنغهاي لا يمكن أن يتغير في دعمها لوجود علاقات صداقة ثابتة متينة تقوم على المبادئ ولا تتغير بتغير المصالح. فسورية لا تأخذ وصاية من أحد، ولغز الوحدة الوطنية في سورية لا يمكن لأحد أن يفهمه إلا الشرفاء.
واليوم، وفي ظل ما يعيشه العالم من توترات وغياب للحكمة والتعقل، لا أحد يستطيع أن يتوقع ما ستحمله الأيام القادمة من مفاجآت… وكل توقع هو بمثابة تأملات … فالمنطقة مُقبلة كما العالم على ما يُسمى “الأحداث غير المتوقعة”، لكننا نأمل بأنها ستكون إيجابية على سورية.
ولعل مقارنة بسيطة بين وضع سورية السياسي في بداية الأزمة، وما هي عليه اليوم، تعطي مؤشراً بالغ الدلالة على الارتياح السياسي والنفسي الذي يشعر به كل مواطن، فالتهديد المشترك الذي شعر به السوريون أدى لتولد شعور مشترك بالتماسك والتعاضد حفاظاً على الدولة ومؤسساتها، وقد تقبل المواطن السوري تردي الأوضاع الاقتصادية، فأولوية حماية الوطن من التهديد الخارجي تتجاوز أي أمر آخر، ومن هنا أثبت المواطن السوري وعيه السياسي، وصحة أولوياته.
واليوم، نجد لزاماً على الحكومة البحث عن حلول إبداعية لتحسين الوضع المعيشي للناس، ورسم خطط وسياسات عامة ذات بعد استراتيجي، والابتعاد عن الغوص في تدبير شؤون الحياة اليومية للمواطن رغم أهمية ذلك، لكن دور الحكومة أكبر من ذلك بكثير. وسورية تمتلك الثروة الأغلى والكنز الذي لا ينضب…. فالمواطن السوري كان وما يزال رمزاً من رموز الصمود الأسطوري على مر التاريخ، وهو اليوم يعطي دروساً جديدة في الصمود والكفاح والمقاومة.
أملُنا كبير، فشهداؤنا عبر التاريخ لم يتركوا لنا سوى خياراً واحداً وهو الانتصار. ونحن واثقون بوطننا وقدرتنا على تجاوز هذه الأزمة، وطرد المحتل وتحقيق الجلاء من جديد الذي ينتظره السوريون جميعاً.
د. شاهر الشاهر
باحث سوري – أستاذ في كلية الدراسات الدولية في الصين