تأثرت البيئة العمرانية الفراتية كغيرها باحتياجات كل مرحلة من مراحل التطور التي مرت على المجتمع، وتغيرت تبعا لتغيره وأثبتت قدرتها على تحقيق الهدف الوظيفيّ والتغلب على التحديات، وتأقلمت مع الظروف البيئية المحلية، وعبرت بشكلٍ جليٍّ عن شخصية مجتمعها.
أقدم الأحياء في مدينة دير الزور هو الدير العتيق الذي تمت إزالته عام 1968 على يد المحافظ أسعد صقر الذي كان له دور كبير في إخفاء التراث الديري بكل جوانبه، وكان يتألف من ثلاثة أحياءٍ ذات نسيجٍ متضامٍّ ودروبٍ ضيقةٍ وملتوية وكان امتداده من شارع المتحف القديم شرقاً إلى قصر البلدية القديم غرباً، ومن شاطئ نهر الفرات شمالاً إلى سوق الصياغ جنوباً، وكان يسمى وقتها شارع النهر بسبب وجود الفرع الثالث من نهر الفرات في قناة مائية صغيرة.
وعن هدم الدير العتيق يقول الشاعر الفراتي:
– مررت على الدير القديم فراعني
به فزع الأحجار تحت المعاول
و من المناطق التاريخية معمارياً التي دمرت أيضاً حي الشيخ ياسين وحي علي بك (العرضي) وحي الجبيلة وحي الحميدية وحي الرشدية والشارع العام ويعود تاريخ معظم هذه البيوت التراثيّة إلى أواخر الفترة العثمانية وبداية فترة الانتداب الفرنسي.
و أكمل النظام البائد على هذا التاريخ القديم وعلى الحديث أيضاً فأجهزوا على كل معلمة، من جوامع إلى كنائس إلى بيوت، و لم يسلم منهم أي شيء سوى ذاكرة ابن البلد الذي يرسم تاريخه في سطور.
وصف البيوت التقليدية
يتألف البيت التقليديّ في دير الزور من مجموعةٍ من الغرف التي تنفتح على فناءٍ داخلي (الحوش)، ويكون المدخل الأساسيّ من الشارع الرئيسيّ، وقد يحوي البيت مدخلاً ثانوياً في حال وقوعه على زاوية, ويؤدّي المدخل الرئيسيّ إلى بهوٍ يعمل كموزعٍ للغرف التي تحوي نافذةً طوليةً أو أكثر تطلّ على الشارع، ومن البهو يمكن الوصول إلى الفناء الداخليّ المكشوف.
وفي الجهة المقابلة يوجد رواقٌ منخفض الارتفاع معقود (أي مسقوفاً بواسطة قبوات)، يرتكز على أعمدةٍ كلسيةٍ أو رخامية وعضاضات تعلوها أقواسٌ نصف دائرية غالباً (يسمّى الكاشف)، ومنه يمكن النزول بعدّة درجاتٍ إلى منسوب نصف قبوٍ معقود، يطلّ بفتحاتٍ على الكاشف، وتعلو القبو غرفتان بسقفٍ خشبي، وتحتوي الجدران على كوىً تتقدمها شرفةٌ تطلّ على الحوش، ويمكن الوصول إليها بواسطة درجٍ مستقيمٍ بردّة واحدة، يرتكز على أحد جدران الحوش، وقد تتوسط الفناء بركة ماءٍ أو نافورةٌ وبعض الأشجار كالنخيل أو الرمان أو الحمضيات وهناك بعض البيوت الكبيرة لوجهاء المدينة، والتي تعد قصوراً تحوي العديد من الغرف والقاعات والمستودعات، كما تحوي أكثر من فناء.
قام النظام البائد بجريمة استهداف الأحياء السكنيّة التي تحوي البيوت والجوامع والكنائس التراثيّة بالقصف العشوائيّ المدفعيّ والجويّ الذي حولها إلى مدينة أشباح ، وبقيت دير الزور بتراثها وآثارها ومعالمها القديمة والجديدة ذكرى حزينة في عقول من عاصروها ورأوها.
مهدي الراوي