حين يذكر الحصاد في دير الزور فإن أول ما يذكر معه هو ذاك الطقس الاجتماعي الذي يتسم به، لكنك إن زرت الريف اليوم فستجد أن صوت الآلة يعلو على أغاني الحصاد والعمل شبه الفردي إلى جوار الآلة الباردة صار المشهد البديل عن تكاتف ما اصطلح على تسميته بالسواعد السمراء، ذاك أن الطقس العفوي الذي كان قد ارتبط على مر الزمان بمجموعة من الآلات البسيطة التي كانت بواسطة التعامل معها قادرة على توليد ذاك الزخم الحسي من خلال العمل الجماعي الذي كان ضرورة يفرضها كم كبير من العمل.
لم يكن الحصاد عبارة عن جني ثمرة تعب الموسم، بل كان عرساً لكل من يشارك به من أهل القرية، كانت ترافقه طقوس مميزة لا تتكرر إلا معه حيث اعتاد أهالي القرية الواحدة التوزع في مجموعات تسمى كل مجموعة “شدة” ويكون توزيع المجموعة محكوماً بقرب أراضي أفرادها، حيث يغادرون منازلهم قبل شروق الشمس أي قبل ما يسمى بالعامية “شفاق” ويأخذون معهم “القرصة” وهي عبارة عن وجبة خاصة تقدم غالباً للحصادين تتألف من الذرة المطحونة والمعجونة مع اللبن، بعد ذلك يبدأ الحصاد الذي يتألف من عدة مراحل أولها الحصاد “بالمنجل” ثم “الغمارة” أي تجميع السنابل بشكل دائري فيما يسمى بالبيدر الذي يكون اتجاه السنابل فيه للداخل، بعد ذلك يأتي “الدراس” ثم “التذرية” أي فصل الحبوب عن “التبن”، وكل ذلك يتم في طقس اجتماعي مميز وعلى صوت “الحداء” حيث تبدأ امرأة أو يبدأ رجل بترديد أغاني الحصاد وفق طريقة تسمى “الحدي”، وللحداء في الحصاد عدة أغراض منها ما يقال لشحذ الهمم، ومنها ما يقال لنسيان العناء، ومنها أيضاً ما يقال عن الحصاد ولكن الغاية الحقيقية ترتبط بالحب، فموسم الحصاد ينتظره الكثير من شباب الريف لأن معظم الزيجات تتم بعد الموسم، وذلك لارتباط الدخل الاقتصادي في الريف بالإنتاج الزراعي، ومن الشعر الذي يعبر عن الفكرة الأخيرة الأبيات التالية:
رواحي يمَا عالحصيد رواحي/ وسط الحصيدة ضيعت ملواحي
آني بطـيـة والحـبـيـب بطـية/ خشف “القريَة” سلب عقلي وراحي
آني بـديـرة والحـبـيـب بـديـرة/ عشق الزغـيـرة بالقلب سـواح
رواحي يمَا عالحصيد رواحي/ الـلـيل روح والصبـح سـواح
“ملواحي”: قلادة، “طية”: أي مكان أو ناحية، “القريَة”: إحدى قرى “دير الزور”
الدراسة الآلية
ومنه أيضاً:
حاصود ماني حاصود/ جيت أخم القرايا
“أخم” :أزور أو أتفقد، “القرايا” القرى
ومن الحداء أيضاً ما يتحدث عن المعاناة وانتظار انتهاء العمل:
العلة ودين العلة/ والبيدر شال وولى/ هسع يجـيـنـا الـفـلاح/ ويـطمـِنـا بالحلة
“هسع”: الآن، هذه الساعة، “الحلة”: الانصراف
وإن تأخر توقيت الانصراف تحول الخطاب إلى الصورة التالية:
غابت الشمس غابت على روس الحيطان/ مـحـد قـالـنـا حـلــوا ويـا قـلـة الـوجـدان
“حلوا”: انصرفوا.
ومنه أيضاً خطاب للمناجل والزرع:
قوم ارحل عنا يا زرع/ جاك المنجل يذرع ذرع
وآني خيــال المنـجـل/ والمنـجل خيـال الـزرع
منـجـلـي يا مـنجـلاه/ رايــح لـلصـانــع جــلاه
مـنـجـلـي يا مـالـوفي/ بـين كـتـوفي مـحـذوفـي
وقد تدفع شدة جمال البيادر الفلاح إلى تمنيه الإبقاء على السنابل فيها إلا أنها رغبة غير قابلة للتحقق:
طالع ورد بحارتنا أحمر ومصفر لونه/ أمـنـتـه للـمنـاجل أمـانـة لا تحصدونـه
“ومصفر”: ما اشتد اصفراره، “أمنته”: تركته أمانة.
وقد تستخدم في الحصاد بعض الأغاني الحماسية من شعر ما يسمى “الهوسة الفراتية” من قبيل:
وإن هلهلتي هلهلنالج/ بارود محزم جبنالج
وإن هلهلتي يا عمتنا/ حـنا الصبيان بلمـتنا
أما عن الأدوات التي رافقت تلك الطقوس الاجتماعية في موسم الحصاد بشكل عام فقد تحدث عنها الراحل الباحث “عمر صليبي” بقوله: المحراث اليدوي ذو السكة الكبيرة الذي تجره الثيران أو البغال السائدة، “الطبان” وهو قطعة مستقيمة من الحديد لتسوية الأرض ، “المنجل اليدوي”، “النورج أو الحيلان” كما يسمى ويستخدم في “الدراس” أي فصل الحبوب عن “التبن” وهو عبارة عن عربة من الخشب تحتوي داخل إطاراتها عدة مسننات حديدية مرتبطة مع بعضها بعضاً بواسطة محور حديدي ويثبت المحور على الحوامل الخشبية الجانبية ويتصل عمود العربة بالحيوان الذي يجرها، “المذراة” وهي عبارة عن قطعة معدنية تشبه المعول ولكنها مفرغة فتظهر فيها سبعة أصابع معدنية متباعدة ومنثنية قليلاً نحو الداخل