قبل القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين عانت المرأة الفراتية من فقدان الأحبة الأب والأخ والزوج، وتعود هذه المعاناة لوقوع المحافظة تحت الحكم العثماني الذي أهمل التعليم، ولم يتح الفرصة للمرأة أن تتعلم وأن تشارك في أمور الحياة، كما تعرضت النساء للحزن والحرمان لابتعاد أزواجهن أو إخوانهن للعمل في مناطق أخرى لكسب لقمة العيش أو للتجارة، أو لسوق الحكومة العثمانية الرجال للخدمة في الجيش، وفي تلك الفترة أطلقت المرأة الفراتية أناشيد حزينة للتعبير عن داخلها.
هذا ما أكده الباحث المرحوم عباس طبال عن معاناة المرأة في الهدي الفراتي وأضاف قائلاً: تحملت المرأة الفراتية إضافة إلى أعبائها السابقة أعباء تربية الأولاد معبرة عن هذه المعاناة بترديد شعر يصور معاناتها، وخصوصاً عندما تضع ابنها في عبّارته (السرير الصغير) وتهزه بيدها أو برجلها مطلقة أشعاراً بصوت شجي حزين يحكي عن معاناتها نتيجة ظلم المجتمع، والأهل، والأعراف والتقاليد.
أستند بيك يا علي يا ساكن الحلة/ حليت كل المشاكل ربي مشكلتي تحله
وتابع الطبال حديثه قائلاً: تبدأ المرأة الإنشاد لولدها لينام وهو يسمع صوت أمه الذي تبدأه بنغمتها الحزينة معبرة عنها بالتأوه أواه – أواه والتي تعني أوف ويا ويلاه ممزوجة بالألم، ومرارة الحياة، وكلما انتقلت بهديها لأبنها ببيت جديد من الشعر رددت أواه –أواه حيث يتألف كل بيت من الهدي من أربعة أشطر ينتهي كل شطر بالحرف نفسه.
الهدي من الهدهدة فالأم تهدي لابنها لينام، ويترافق مع صوتها الحزين حركة السرير فالطفل الفراتي يتعلم الموسيقا، والكلام الحزين قبل أي شيء، فالأغنية الشعبية أصدق تعبير عن الثقافة الشعبية.
وذكر الطبال بعضاً من الهدي الفراتي قائلا:
أصبحت ببلاد وأصبح خاطري ببلاد/ وأصبح قليبي عليهم كفحم حداد/ يا كاتبين الورق حاج تكتبونه عاد/ والعمر محدود لا ينقص ولا ينزاد
ففي البيت الأول تعبر المرأة عن معاناتها من الغربة فهي بعيدة عن أهلها وأحبابها، ومع ذلك فهم حاضرون في ذهنها، أما البيت الثاني نجد حكمة مفادها أن لكل إنسان أجلاً محدوداً كتبه الله عز وجل لا يستطيع أن يهرب منه.
وتردفه ببيت آخر تصور فيه البخلاء كانزي الأموال بقولها:
العين سودة وتشبه حبة السودة/ والحواجب سود شبه القوس ممدودة/ يا صاحب المال وإلك أيام معدودة/ والمال للوارث، لحمك تاكله الدودة.
كما صورت المرأة الفراتية في أشعارها ناكري الجميل وصاحب الأصل لا ينكر المعروف ولا يعض اليد التي أحسنت إليه فقالت بذلك:
أصلك من الشوك دللتك وربيتك/ يا ورد جوري على الدشمان عليتك/ لمن دنا حملك الغالي ترجيتك/ رديت خرنوب على أصلك وخليتك
والدشمان: (كلمة تركية الأصل تعني العدو).
ومن الصور الشعرية الجميلة التي أبدعت بها المرأة الفراتية وهي تهدي لولدها:
لا خير دام ولا شر على أهله دام/ ولا صديق ذخرته للشديد دام/ يا من مكتوب على قصّته كاف ولام/ وصبراً جميل على ما تصنع الأيام
وهناك حكمة أخرى تظهر فيها النتيجة السيئة لمعاشرة الأنذال وهذه الحكمة استقتها هذه المرأة الأمية من تجارب الحياة التي عاشتها حيث قالت:
أوصيك يا صاحبي من عشرة الأنذال/ واتروح خسران لا مكسب ولا راسمال/ عاشر أجاويد منهم تكتسب وتنال/ هم عدلوا محملك بيناتهم لو مال.
ولقسوة الفراق تستنجد المرأة بالصالحين والأولياء قائلة:
أستند بيك يا علي يا ساكن الحلة/ حليت كل المشاكل ربي مشكلتي تحله.
يتسم الهدي الفراتي ببساطة الصياغة فهو يعبر عن حال الأمهات وما تعكسه أوضاع الحياة أثناء تحريك طفلها لينام، ولا يقتصر الهدي على الأمهات فقط بل كان وما زال يشاركها فيه أفراد الأسرة (الأب والأخت والجد والجدة والعم والخالة) غير أن الأم تتقدم الجميع بذلك ويكاد أن يكون وقفاً عليها.
وبالرجوع إلى المراجع التي ذكر الهدي فيها نجد المحامي عبد القادر عياش قد خصص بعضاً من مؤلفاته حول شعر الأطفال فيقول: الهدي اختصار لفظ الهدهدة، فالأم تحرك طفلها في مهده، أو بين يديها، أو في حضنها لينام، والهدي غناء بكائي نسائي تترنم به الأم لإنامة طفلها على نغم شجي رخيم، تمد الأم صوتها فيداعب سمع الطفل ويلامس أعصابه فينام بهدوء وراحة.
ويضيف عياش في الهدي قائلاً: للهدي نغمته الحلوة، يفيض أسى ولوعة وتوجعاً، تعبر ألفاظه ومعانيه عما تعانيه المرأة في دير الزور وفي شط الفرات من اضطهاد وحرمان وسوء حال، ولا يخلو من إشارة إلى الحب.
وشبه عياش الهدي بالملحمة فيقول: إن مجموعة الهدي التي تترنم بها المرأة أشبه بالملحمة وليس للرجال مجموعة شعرية بطولها وألوانها وحكمها وصورها ونغمها الشجي الحلو وصدقها، فرباعيات الهدي سلسلة طويلة الحلقات ليست من نظم شاعر واحد، وإنما نظمها شعراء شعبيون من (رجال- ونساء) في أوقات مختلفة متباعدة ولا ريب إنها وافرة لتلبي حاجة المرأة الديرية فراغها وخلوتها مع أطفالها.
تدور رباعيات الهدي حول معاني شتى وفيها تصوير للمشاعر وتوسل للرسول محمد صلى الله عليه وسلم وفيها حكمة وإباء وتأس، إنها مجموعة أدبية تتأدب بها المرأة الديرية، لكن مع تقادم الزمن وإهمال هذه الترانيم وانشغال أمهات الجيل الحاضر بأشياء كثيرة ضاع الكثير منها ونسي القسم الآخر.
اسماعيل النجم