كتب المحرر السياسي
قال مناحيم بيغن ذات يوم: (إن التاريخ تصنعه الأحذية الثقيلة)، وقد صدق وهو كذوب، فالتاريخ يتم صنعه بالاختراقات التي تحدث في بنيانه الرتيب والصلب، اختراقات تجعل ذلك البنيان الصلب أهشّ من بيت العنكبوت وأوهن، ليقوم بها رجال ونساء بأحذية ناعمة رياضية، وإنما رجال ونساء بأحذية ثقيلة صلبة صنعوها بأيديهم ولم يستوردوها، نعم كلام الكذوب بيغن حقيقي، فالجيوش هي التي تحقق الاختراقات في التاريخ، ويتم البناء فيما بعد على تلك الاختراقات، من سياسة واقتصاد ودبلوماسية.
وسط عالم ملتهب بشتى حيل الدجالين ومؤامراتهم التي لا تظهر مؤتمراتهم إلا القليل منها، ووسط حرب شنتها دول عظمى وصغرى وأجراء من كل مكان، استخدم فيها كل ما هو مسموح وغير مسموح، وسط حصار من الإخوة والجيران، ووسط انقلاب أخلاقي لدى فئات من الناس باعت ذمتها الوطنية بثمن بخس، وسط كل هذا حقق الجيش العربي السوري اختراقاً هائلاً في التاريخ وقلب الموازين لصالح بلده، وعلى أساس هذا تم وضع الخطة لاختراق الحصار الدبلوماسي المقنع للحصار الاقتصادي، فسوريا ليست كغيرها، سوريا معتادة منذ خمسين عاماً عندما كان أعداؤها مجرد أولاد صغار، أن لا تفاوض إلا وهي منتصرة قوية فارضة لشروطها، ومعتادة أن ينحني أعداؤها احتراماً لها وهيبة منها.
سوريا العروبة، منذ خمسين عاماً معتادة أيضاً أن لا تبتعد عن بعدها القومي حتى لو اضطرت بقلبها الكبير على الغفران والمسامحة لمن أخطأ بحقها من أشقائها الصغار، وجاء يذرف دموع الندم، حتى ولو كانت دموع مصلحة جعلها الانتصار المدوي للجيش العربي السوري تنهمر زيفاً، ولا تهم مصالحها الآنية وزيف دموعها ثوابت السياسة السورية التي اعتادت أن تكون الشقيق الأكبر والأكثر خبرة بكثير، والأبعد نظراً بما لا يقاس، سوريا ترى أن أعظم مصلحة لها هي الحفاظ على البعد القومي، ومن هذا المنطلق لا سواه كانت كالشقيق الأكبر، تغضب وتكتم غضبها بحكمة لأنها ترى ما لا يراه المراهقون الطائشون، وتسامح عندما يعود المراهق الذي أغوته شياطين الأرض وحرضته على شقيقه الأكبر، ولا يهم سوريا أن توبته مشكوك فيها، سوريا تبني دبلوماسيتها دائما على إنجازات الأحذية الثقيلة، بني على الاختراقات التاريخية، تسامح وهي الأقوى ولا تنخدع، فالقوي المؤيد بجيشه وبشعبه لا ينخدع، ومن يمتلك قيادة تفهم كل صغيرة وكبيرة في أدق زوايا العالم، وجيشاً لديه استعداد أن يذهب إلى آخر قطرة دم لا يمكن خداعه، ومن يمتلك دبلوماسية عريقة أذهلت العالم يسامح ولا ينخدع.
من هذه الثوابت لا سواها تستقبل سوريا عودة الأشقاء الضالين تباعاً إلى حضنها، فشعبها وجيشها وقيادتها ثالوث حقق واحداً من أعظم الاختراقات في التاريخ، إن لم يكن أعظمها قياساً إلى الفارق الهائل في القوة والإمكانات بين الطرفين، حتى الشيطان نفسه شارك في الحملة على سوريا وشعبها، ثم فرّ مذعوراً أمام الأحذية الثقيلة للجيش العربي السوري، وقال لمن تبعه: (إني برئ منكم، إني أرى ما لا ترون).
إلى هذه المدرسة تنتمي الدبلوماسية السوية مع الأشقاء، مدرسة الصبر والفدائية، والغفران وقت القوة، غفران لا تريد منه شيئا سوى الحفاظ على البعد القومي، فالسياسات تأتي وتذهب مع ذهاب أصحابها، إلا السياسة السورية لأن صاحبها شعبها وشعب سوريا لن يذهب إلى أي مكان سوى النصر.