آخر حروف فيلسوف منتحر !

 
د. نعمة العبادي
 
بعد أن يأست اسرته التي عهدته لا يذهب بعيدا خصوصا في تلك الايام، ابلغت شرطة المدينة بإختفائه، وبعد بحث طويل، وجد ( فيلسوف المدينة) ممددا قريبا من اريكة مهملة كانت في آخر الغابة عند بركة صغيرة، وقد اطلق على رأسه رصاصة واحدة، وبجانبه ظرف مكتوب عليه ( اعتذار..الى صغار المدينة اعتذر إليكم لاني لم استطيع ان احقق لكم ما حلمنا به معا) وبعد فتحه وجدت فيه لفة اوراق مكتوب اعلاها ( آخر حروف فيلسوف منتحر) وفيها النص الآتي:
قبل ان تعاجل اليكم شاردات وواردات الافكار ،وقبل ان تجتهد عقول الخاصة وامزجة العامة ، وقبل ان ياخذ التأويل طريقه لينسج الف قصة وقصة ، فتارة يفسر ما قدمت عليه على انه فعلاً جاء لاختلالات عقلية  مزمنه لم تكن تظهر بشكل واضح الا انها تراكمت تدريجيا لتصل الى هذه النقطة ، واخرى يقال ان المزيد من الفلسفة نهايته الجنون 
وان الجنون احدى المدخلات التي تؤدي بالانسان الى تصرف بجسده بشكل  غير صحيح، 
 وربما تاخذكم تاويلاتكم الى ان هذا الفيلسوف وان كان له نتاج عقلي مهم، وان له عمق في فهم العقلانيات الا انه لايحمل من الايمان ما يكفي ليجعله يتحمل مشاكل الحياة وتحدياتها، وربما يقال في تفسير فعلي انني كنت تحت تاثير مخدر او ايحاءات ما او حتى ضغوط من هنا او هناك ، وقد تجتهد العقول فاصبح شخصا قد ارتكب جرما خفيا ،وان حدة الوعي في داخلي كانت تتصارع مع هذا السلوك الجرمي، فكان اقدامي على الانتحار بمثابة هروب الى الامام مما انا فيه ،وربما تنفتح قريحة احد فيكون السبب هذه المره في انجاز طموحات حملتها معي لم تتحقق، فكان هذا الانغلاق هو  الذي سد منافذ الامل، وربما يدعي آخر انه تلمس في فكري بذوراً للسوداوية واليآس وصلت الى الحد الذي كانت سببا في ما فعلت .
اقول لكل هذه التاويلات والطروحات واقطع الطريق  عليها:
 انا رجل مؤمن ايمانا عميقا بالله وملائكته وورسله والاديان
 وكتبه ، اعرف جيدا ان الاقدام على إزهاق النفس  بارادة طوعية محرم، وهو الفهم الشكلي لهذا المعنى .
 اؤكد لكم جميعا اني اعي جيدا وبعمق كل المشهد حولي والصورة التي ستكون عليها نهايتي، وربما ما بعدها، كما اقول لكم اني اؤمن  بعمق بحب الحياة وكنت في كل عمل اعمل بالشق الذي يقول اعمل لدنياك كانك تعيش ابدا ، رغم اني لم اكون اخاف من الموت او أتطير منه وان فلسفتي وافكاري كلها كانت تدور حول الاصلاح والتغيير والتقدم نحو الاحسن، وخلق واقع افضل، كما اني لي املا ورجاء عظيما بالله، كما اني لم اكن اعيش عزلة بمعناها الحاد، فكان الكثير حولي يغمرني بحب كبير، يكفيني ان اولادي وزوجتي يحبونني كثيرا، وكذلك الكثير من اهلي واحبتي،ولا شك في ان لكل انسان هناك اشخاصا ً يختلفون معه في الرأي والمزاج وربما يكرهونه لاسباب نفسية تعود اليهم، نعم كنت اشعر بغربة من جهل الكثير مما يحيطني من هذا العالم، وتباين الفهم والتفكير وحتى الاحساس، لكن هذا لم يغلق منافذ الوصل بيني وبين منافذ من نور الوصل ولو بدرجات بسيطة ، وليس لي مشاريع و احلام حطمها الواقع فاندفعت الى اليآس رغم اني  تمنيت حصول  الكثير وعملت على حصول الكثير وضحيت من اجل ذلك ، ولستُ مولعاً بالشهرة والانتشار لذلك حاولت ان اقوم بفعل يضعني في دائرة الحدث والأهتمام .
 ازهاق الروح بالأرادة والاختيار لاينبغي ان يكون طريقاً ومنهجا يتخذه الكثير على انه افضل السبل التي  امامهم ، كما ان هذا العمل بمعناه المعنوي عندما يكون على اثر وعي انتكاسي يؤشر الى اخر درجات ضعف الذات ، وهي حالة غير مبررة وغير ممدوحة مهما قيل عنها . انني ادعي  ان ما اقدمت عليه شأن اخر فهو موت واعٍ يماثل الشهادة عندما نتحرر من الفهم التقليدي الضيق لمدلول ازهاق الروح  الاختياري بالمعنى  الجنائي والقانوني والشرعي.
إنه اقتراب واعي من القدرة على الاجوبة الاعمق والاكثر صراحة، وهي الاجوبة المقدمة الى الذات في داخل غرفها الظلماء اي في كواليس وجودها الخفي ، حيث تبقى بعض الاجوبة محجوبة او خائفة او مترددة من الظهور بصراحة امام الذات ،وتشكل الكثير من ماكنات التسويف والتضليل في الذات لابعاد شبح هذه الاجابات المباشرة ، لذا فان الاندفاع الى لحظة تكون تلك الاجابات حاضرة بقوة لا يضمنها إلا قرار حتمي بالموت حين سماعها بوعي . 
لن يتوقف هذا العالم  المجنون عما يفعله بنفسه من سوء ، كما لن يتوقف الكثير من الجهلاء والحمقى عن بلائهم (غير حسن ) في الاعانة عليهم ، ومن الصعب ان يقال بان الحب بوضعة مادة الحياة الحية ودواء الجراح العميقة في الذوات ، سيكون هو المادة اللاصقة الاساسية التي تنتظم اجزاء وجودنا المتنافرة والمتناحرة، كما ان الحق والعدل لن يجد الكثير من الشهداء من اجلهما على الاقل في المدى المنظور ، وما دام الناس يخافون الموت بوصفه انقطاع حاسم لجميع فرص التفاعل و التعامل والاستفادة من الوجود الحي بكل اشكاله ، فان ذلك يدفعهم  للبحث عن الف مخرج  ومخرج من اجل الالتفاف على وعيهم وضميرهم وصوتهم الداخلي، وسوف يكون التماهي او المداهنة هي الطريق الأمثل للخروج من ضاغط هذه الملاحقة.
  قد يتصور الفلاسفة بان المزيد من العقل والعقلانية هي الدواء الناجع الذي يمكن ان يتدارك بقايا الدمار  الذي ألحقته وتلحقه النفوس الشريرة بنفسها وبمن حولها بدوافع شتى ليس الخير منها ، كما قد يتصور علماء الدين بالمنظور الكلاسيكي ان جلوسهم على بوابات تحكيم الامور وادارة الشؤون هي الاختيار الاسلم ليتخلص العالم من آثامه، ولا شك بان دهاة السياسية واساطينها يطرحون فذكلة السياسية ومخارج ادارتها طريقاً لانهاء معاناة العالم ، ولايبعد ان يتمنى بعض من المؤمنين بالفوضى فكرة مفادها الحرية المطلقه للذوات دون قيد او شرط ، فأنهاء كل اشكال المحددات والقيود  هي السبيل الوحيد لاحساس الناس بوجودهم، واكتمال سعادتهم. اقول ان ذلك كله  لن يشافي جراح العالم العميقة ، ولن يداوي اوجاع الانسان الكثيرة ، ولن يحرر هذا الوجود الماسور بين الف طوق وطوق من اعتقاله البغيض .
 ان لحظة تغيير عميقة تحتاج كميات هائلة من الحب ، الحب الذي يبدأ من ادراك كل الجوانب المضيئة والايجابية في كل مفردات الوجود  مهما قيل عن شرها المطلق ، الحب الذي يأخذ القلوب الى  مراتب التطهيرالمتراكمة التي تزيل بقايا الكراهية( الواعية وغير الواعية من الذات)، الحب الذي يجعلنا نؤمن بأن هناك الكثير مما ينبغي تاديته لانفسنا وللاخرين من حولنا ، وهذا الحب تتصاعد درجاته في الصور  المتراتبة في الكمال والجمال حيث يكون اكثر استحقاقا للصورة المثلى  في الجمال والكمال  التي يلخص بعضها هذا النص العظيم (خيرك الينا  نازل وشرنا اليك صاعد ، ولم يزل ولايزال ياتيك منا ملك كريم بعمل قبيح فلايزدك ذلك الى جوداً او كرما ً )، الحب الذي يتجة الى الذي  يملك مطلق القوة والقدرة في فعل كل مايشاء  فينا، ونحن مستحقون لفعله، ولكنه  لايفعل ذلك بنا لانه يحبنا، ولاجل هذا الحب يفيض من غفرانه.
ربما سيضحك الكثير منكم ويسخروا من هذا الفيلسوف الخرف الذي يريد ان يدبر الاوطان، ويحقق سعادة الانسان، وينهي محن العالم بوصفة إنشائية عائمة لا حدود لها، ولا توصيف مباشر فيها،
فكيف ومتى ولمن يكون هذا الحب ؟ ومع تحققه 
ما قيمة هذا الحب امام كل ما يحيط عالمنا من تحديات؟
 فأقول ان هذا الكون احبهُ خالقهُ فأوجدهُ،  وعندما اشاعَ اهلهُ الكراهية صار يتجه الى الموت تدريجيا، وانه موعود بحب سيكون جرعة قوية تعيده الى نصابه فترة من الزمن بعد طول اختلال الا انه بين الحب الاول والاخير، لا منفذ ولاطريق له الى الخلاص الا الحب الذي وصفته . استودعكم الله واتمنى ان يكون موتي قنديلا صغيرا في نفق الحياة المظلم ليساعدكم على القليل من البصيرة.
رقم العدد:4327
قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار