منذ أحد عشر يوماً، والساحل السوري يئن تحت ألسنة النار، مشهد تتكرر فصوله كل صيف، لكنه في هذا العام تجاوز حدود الكارثة إلى حد الفاجعة، ألسنة اللهب لم تكتفِ بابتلاع الأشجار، بل امتدت لتمحو أجزاء من الذاكرة، من المشهد الطبيعي الذي لطالما شكّل رئة سوريا ومتنفسها.
في ريف اللاذقية وطرطوس، اندلعت النيران في عشرات المواقع بشكل متزامن، وكأنها رسائل ملتهبة تريد أن تُفرغ الجبال من روحها الخضراء، غابات الصنوبر والسنديان والزيتون التي عايشت الأجيال، تحولت خلال ساعات إلى رماد،
وترافق ذلك مع موجات حر غير مسبوقة ورياح شرقية نشّطت اللهيب، مما أعاق جهود الإطفاء رغم كل المحاولات.
الأرقام التي بدأت بالتسرب من الجهات المختصة تُنذر بالخطر: آلاف الهكتارات من الغابات والمحميات الطبيعية دُمرت، ومئات العائلات أُجبرت على مغادرة منازلها، بينما اختنقت قرى بكاملها بالدخان، وتضررت البنى التحتية من خطوط كهرباء ومياه وطرقات.
ما يميز حرائق هذا العام هو اتساع رقعتها وعجز الإمكانيات المحلية وحدها عن احتوائها. الأمر الذي استدعى استغاثات عاجلة إلى الدول الصديقة، فسارعت كل من العراق والأردن وتركيا وقطر والسعودية إلى إرسال طائرات إطفاء ومعدات متطورة. كما تدخل الاتحاد الأوروبي عبر آلية الاستجابة السريعة، في عمليات الإطفاء.
في الداخل، انتشرت أفواج الإطفاء والدفاع المدني والمتطوعين من كل المحافظات. مشاهد الشبان الذين يحملون خراطيم المياه، أو أولئك الذين يشكّلون سلاسل بشرية يداً بيد لإطفاء النيران، أعادت لنا شيئاً من الأمل وسط الرماد. كثير من هؤلاء لم يكن يملك معدات متخصصة، لكنهم كانوا مسلحين بشجاعة نادرة وحبّ للأرض لا يُقاس.
ورغم شدة النيران، فإن ما يحترق في هذه اللحظات لا يقتصر على الشجر والحجر، بل تمتد ألسنة اللهب إلى أعماقنا: تحترق الطفولة التي مرّت بين أغصان الزيتون، وتحترق الصور القديمة التي التُقطت بين الجبال، وتحترق حكايات وحكايات
اليوم، لا بد من وقفة جادة على المستويين الرسمي والشعبي. لم تعد الحرائق مجرد حدث موسمي عابر، بل باتت تهديداً وجودياً للبيئة، ولمخزوننا الطبيعي، ولذاكرتنا الجماعية. علينا أن نسأل: لماذا تتكرر الحرائق بهذا الشكل؟ ما حجم الإهمال، وما مساحة الفعل المتعمد؟ وأين نحن من خطط الحماية الوقائية، ومن برامج التوعية، ومن مشاريع التشجير والتعافي؟
اللهم الطف بهذا الوطن، واجعل من الرماد حياة جديدة. علّنا نتعلم من لهب الجبال، أن نحب ترابنا أكثر، وأن نرتّب حساباتنا مع الطبيعة التي ما عادت تتحمل عبثنا وصمتنا.
الحرائق ستخمد… لكن هل سننجو من الاحتراق الداخلي؟
حجي المسواط