“من لا يعرفه محق إذا ما اكتفى بتناول كاسر وتقييمه على أساس نتاجه الأدبي المطبوع ، وهو الأمر الذي أهمله كاسر ولم يكترث به رغم إنتاجه الغزير ومثابرته شبه اليومية على الكتابة الأدبية وغير الأدبية، لكن ثمة حقائق ثقافية، غير الطباعة، ملتصقة بشخصيته، منها مواهبه الفنية المتعددة وديناميكيته العالية وعمق تمرده، التي جعلت منه ( كاريزما ) ثقافية تفرز صمغها المعرفي الخاص الذي ستلتصق به المواهب القادمة من الأجيال الأصغر سنا (وربما المواهب المجايلة له ) لتشهد تلك الغرفة الصغيرة، المنزوية بـ ( حوش ) أهله في حي الموظفين بدير الزور، أشكالا من المؤامرات على الشكل والمضمون في الشعر واللوحة والجملة الموسيقية، وعلى الأعراف والموروث الفكري والاجتماعي”.
كلمات ذات طبيعة إنفوغرافية من الراحل بشير عاني، تجعلنا نحن الذين جايلنا كاسر حباس وصادقناه نستحضره على مستوى المعلومة والصورة، محقّة إلى درجة أن بشير وأنا حاولنا أن نرمم تلك الفجوة بين صمغيّة كاسر المعرفية وفوضى كتاباته القلقة التي تركها من كان يدرك أنه سيرحل فجأة ودون وداع لأحد أو من أحد، حاولنا ترميم تراثه ولو بمجموعة واحدة من قصصه “صاحبة الظل الطويل” التي لا تعرف فيها “جودي أبوت” رأس الظل من رجليه، فكاسر كان ثوريّاً في كل شيء، ومشتعلاً لدرجة أنّه لم يستمتع بالثورة وغادرها صريعاً عندما كان جمرها يشتعل تحت الرماد.
من “عضّة كلب” وهي أولى قصصه التي نشرها في الثمانينات في صحيفة الثورة، وحتى روايته التي كان يحلم بها “ها أنت تفعلها”، مروراً بقصصه المكتوبة أفقيّاً وعمودياً على أوراق ذات مزاج ثوريّ نزق مثل صاحبها وصلتنا أنا والراحل بشير في وقت ضائع كنا نتجهز فيه لدمار مدينتنا، وقتل أصدقائنا، وتهجير من نجا منّا، كان كاسر حباش لا يفارق انحيازه المطلق للفقر الذي لازمه “كاسر لازم الفقر وليس العكس” طوال حياته، ولا يفارق بمغناطيسيته “التبشير” بالحرية، وجذب جيل يفهمه أحياناً ولا يفهمه أخرى، لكنّ المدهش أنّ ذاك الجيل الجديد الذي تعلّم ريمونتادا الضوء في “حوش” كاسر في حيّ الموظفين بدير الزور، أو صالونه في “الجبيلة” ترك كلّه القلم والورق وشرع يكتب بالسلاح والدمّ قصّة الحريّة، ونتذكّر حتى اليوم أحاديثه ونتساءل: ما كانت الخلطة السحرّية للحريّة التي كان يدسّها سرّاً بين كلماته المغتاطيسية لتجعل شباباً يافعين كانوا يخرجون من عنده مليئين بالأمل يقدّمون حيواتهم على محرابها؟
عقبة الخلّوف الحسن