(عرس الغنم).. طقوس جز الصوف في الرقة

 

يستعد مربو الأغنام في كل ربيع في منطقة الرقة بالتحضير لموسم (جز الصوف)، الذي يسميه أهل الرقة (عرس الغنم ) أو(الكصاص) وتلفظ الكلمة جيماً مصرية مخففة، حيث يستدعي صاحب (الحلال)، والحلال تعني الأغنام، ممن يعرفهم من الجوار والأقارب، ولا سيما ممن لديهم خبرة واسعة في هذا المجال.. وفور حضور ممن دعاهم للمشاركة في العمل، يقوم الجميع بربط النعاج في الصباح الباكر في برحةٍ قريبة من بيت مالكها، حيث يشرعون في جز أصوافها بمقص كبير، يسميه أهل الرقة بـالمقص التركي، أو (الزو)، وهو عبارة عن قطعتين من الحديد أحد جنبيها مسننة وحادة، من الأمام تكون رفيعة ومن الخلف معقوفة على شكل حلقة، وفي منتصف إحداها نتوء بارز وفي القطعة الثانية نتوء مجوّف، حيث يدخل النتوء غير المجوّف بالنتوء المجوف في القطعة الأخرى، وتتم عملية الجز بواسطته باليدين وليس بيد واحدة، كما هو الحال بالمقص العادي. وفي بعض البلدان العربية يطلق عليه اسم (الجلم).. تستمر فترة قص الغنم فترة قد تطول أو تقصر، وذلك وفقاً لعدد الأغنام، فإن كانت قليلة تستمر العملية يوماً أو يومين، وإن كانت كثيرة قد تدوم لمدة أربعة أيام أو أكثر، وعرس الغنم لا يكون عادة إلاّ يوم قص صوف الكبش الذي هو فحلها، ويُجز صوف الكبش مع المراييع ( كباش صغار يوضع في عنقها أجراس من الحديد)، وهي بمثابة القيادة التي تقود البهم (مجموع الأغنام) في البرية، وفي المراعي. وتتم عملية جز صوف الغنم على النحو التالي: تربط النعجة الواحدة من قوائمها الأربعة، ثم يبدأ من هو مختص بالقص بواسطة المقص العادي، أو بـ(الزو)، واليوم يستعمل القصاصون ماكينات قص صغيرة تعمل على التيار الكهربائي أو البطارية لكن فقط في حالة تكون الغنم (ربيطة) أي مربوطة في البيت، أما إذا كانت سرحي، فيتم جزها بواسط المقص أو (الزو)، وتستمر عملية الجز حتى آخر نعجة، ثم تنتهي العملية بجز صوف الكبش، وهذا اليوم، هو يوم العرس الذي تقام فيه الولائم، حيث يجتمع الرجال أمام البيت منهمكين في عملهم، بينما تجتمع النسوة داخل (بيت الْشَعَرْ) في (قسم الْرَبْعَةْ) وهو القسم الشرقي من هذا البيت، لإعداد الأطعمة مرددات الزغاريد استجابة لصوت الجزازين وهم يحدون أحد الأغاني من نوع الحداء الخاص بالجز حيث يقول:

بيدي زويّ وبيدي تواجيدي

وإن قلّتْ العواّن لأقعد على جواعيدي

وبعضهم يردد أغاني هي أيضاً نوع من الحداء الخاص بالغنم، لطيبها كحيوان أليف، ولمنافعها وخيراتها، وتعطى جائزة لأفضل جزاز ولأفضل طباخة طعام من النساء. وعند الانتهاء من القصاص من آخر نعجة (نزع الصوف)، يقوم صاحب الغنم بجلب الكبش أو الفحول، حيث يقوم أفضل جزاز بقص صوفه، بطريقة معاكسة ومخالفة لشكل جز صوف النعجة، حيث أنّ النعجة تجز كاملة، بينما الكبش يجز كاملاً ما عدا رقبته وكتفيه وإليته في الخلف، كي يبدو فحلاً أمام الغنم، وسمعت من أحد المعمرين في الرقة وكان ذلك قبل ثلاثين عاماً من الآن، أنّ بعض مالكي الغنم يعطرون الكبش بعد جز صوفه، ويضعون التمائم في رقبته.

وفي نهاية جز صوف الكبش يأخذ أسرع جزاز ما يسمى بـ(رقية الكبش) وقد تكون مالاً أو طعاماً على شكل سمنة عربية أو زبدة أو جزة كاملة من الصوف. ولدى مربو الأغنام في الرقة طقوس احتفالية أخرى لعرس الغنم، مثل أنهم بعد انتهاء موسم القصاص (جز صوف الغنم) يقومون بإشعال نبات الحرمل حين تكون الغنم نائمة في المراح، وما أن تشم رائحة الريق حتى نجدها قد انتشت وبالتالي سيكون حملها لهذا العام حمل خير وعطاء.. وقال لي أحدهم إنّ مربي الأغنام في الوطن العربي، قد يتقاطع أغلبهم في إقامة طقس متشابه، رش الماء على الغنم بعد قص أصوافها، حيث يأتي بإناء من النحاس مملوء بالماء ويرش الغنم بالماء، ثم يقوم أحد الرجال برمي السطل النحاسي على الأرض، وبرفسه رفسة قوية خلف النعاج، فإن وقع السطل مكفياً على فمه العلوي، فهذا دليل على أنّ هذه السنة سنة قحط (مَحَلْ)، وإن وقع على قاعدته معنى هذا أنّ هذا العام طيّب وعام خير وعطاء.

يشكل عرس الغنم طقوساً فيها من الكثير من التفاعل الاجتماعي بين الناس، وخاصة مربيها، وهناك حالات تفاعل طيبة تحدث بين الناس، فمثلاً بعد الانتهاء من موسم الجز الذي أسميناه (عرس الغنم)، يقوم أصحابها بتخزين الصوف وربطه على شكل (جزز) باللهجة الرقاوية، حيث تأخذ الزوجة قسماً لتصنع منه فراشاً للنوم، أو تجهز منه وسائد ولحف ومفارش (دوشك) باللهجة الرقية، لابنها الذي سيتزوج قريباً أو ابنتها أي جزء من (الزهاب) حسب قول أهل الرقة.. وقسم آخر يبيعه الرجل لشراء ألبسة وحاجيات المنزل، كما ويخصصون قسماً ثالثاً يوزع على الفقراء المجاورين.

بعد انتهاء موسم الربيع، وخاصة بعد اصفرار لون المراعي، وبعد أن تصوّح الأعشاب في نهاية الربيع، فإنّ الغنم وجميع الحيوانات تطلب الماء بكثرة، نجد أنّ الرعاة يقتربون من مصادر المياه على نهري الفرات والبليخ ثم يجمعون على شد الرحيل إلى الديار وفق طقوس أخرى.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار