البادية موطن السحر، الغموض، الشعر الذي يقال على السجية… الثقافة التي تنقل مشافهةً… الملاحم التي انتقلت من جيل إلى جيل لتتحول في ثقافة أهل الحضر إلى ما يشبه الحلم أو الأسطورة، قصص كثيرة ضاعت في رمال البوادي إلا أن قصصاً أخرى عفا عنها النسيان ومنحها عمراً أبدياً في الذاكرة، ولعل من أميز تلك القصص قصة شاعر العتابا الأشهر في المنطقة والذي حين جسد الفنان طلحت حمدي شخصيته من خلال مسلسل تلفزيوني كانت الشوارع تخلو تقريباً من المارة ساعة عرضه، حفظ أهالي الفرات ودير الزور خصوصاً ما قال من شعر، كما حفظوا ذكره من خلال قصته التي تناقلوها أباً عن جد، إنه الشاعر عبد الله الفاضل.
عن مولد هذا الشاعر ونسبه تحدث الباحث الراحل عمر صليبي بالقول: تشير معظم الدراسات الى أن الشاعر عبد الله الفاضل قد ولد حوالي عام 1800م وينتسب إلى قبيلة الحسنة وهي إحدى فروع العنزة وولد بمنطقة العلا الواقعة بين تدمر شرقاً وحمص وحماة غرباً، وربما تكون أهم محطات حياة الشاعر عبد الله الفاضل إصابته بمرض الجدري والتي تعتبر محطة مفصلية في حياته إذ كان قبلها فارساً لقبيلته وصار بعدها خادماً لأحد الشيوخ.
الباحث الراحل أحمد شوحان تحدث عن تلك المرحلة بالقول: كان عبد الله الفاضل في عنفوان شبابه فحط مرض الجدري رحاله في ربوع العلا وانتشر في عشيرة الحسنة فمات من مات وتشوه من تشوه، وقد سرت بين قبائل البدو عامةً عادة مغادرة الأرض التي ينزل فيها الوباء وهذه العادة سارية المفعول على سائر أفراد القبيلة ولو كان شيخها أو زعيمها وشاء الله أن يصاب فارس القبيلة عبد الله الفاضل بالجدري.
اجتمع وجهاء القبيلة وقرروا مغادرة العلا وترك عبد الله الفاضل وحده، نحروا جزوراً (صغير الإبل)، أمام خيمته وربطوا كلبه شير بجانبه ليأكل من اللحم ويحمي صاحبه من الوحوش الضارية ثم وضعوا له في الخيمة شيئاً من طعام وشراب ليقتات به إذا بقي على قيد الحياة.
بقي عبد الله في خيمته أياماً دون أن يمر به أحد حتى قيض الله له جماعة من عابري السبيل، ويشهد البدو أن الصلبة أهل خبرة بالطب ولهم عراقة بذلك فنزلت امرأة عجوز كانت مع الركب واقتربت من خيمة عبد الله فأشفقت عليه وطلبت من أهلها البقاء عند هذا الرجل حتى يشفى أو يموت، فوافق أهلها على البقاء على أن تشرف العجوز عليه ويبقون في خيمتهم المهترئة بعيداً عنه في مرتفع، ولم يدخل شخص آخر ممن كانوا معها خوفاً من العدوى فكانت تسأله عن اسمه واسم قبيلته، فلم يجبها لأنه لا يريد أن يفضح عشيرته، وبعد أيام من الرعاية والخدمة شفي عبد الله من مرضه ولم يملك من أمواله ومتاعه إلا ما في الخيمة، فوهب الخيمة وما فيها لتلك العجوز واعتذر منها لأنه لا يملك غير ذلك ليكافئها به، وذهبت العجوز إلى ذويها وذهب عبد الله إلى الشمال مغادراً أرضه.
وعن المحطة الثانية والتي قد لا تقل تأثيراً عن الأولى وهي التي تتعلق بقصة لقائه بتمر باش أضاف الشوحان: انتشرت بين قبائل الشامية والجزيرة شهرة رجل كريم اسمه تمر باش وكان مركزه في قرية ويران شهر غربي رأس العين، اتصل عبد الله بحاشيته ليكون عنده خادماً يقدم القهوة العربية المرة للضيوف، وبقي زهاء سنتين عند تمر باش ساقياً القهوة للشاربين، وفي يومٍ ما وجه تمر باش إليه توبيخاً عنيفاً لا نعرف سببه فتحركت في عبد الله شاعرية الشاعر الذي ذل بعد عز متوارث فراح يقول شعراً رقيقاً يعبر عن عذابه وفرقته ويذكر ماضيه الزاهر:
هـلي بالـدار خـلوني وشـلهـم / بلـيـل وحـس حاديـهم وشلهم
أبد ما صار من جيلي وشلهم / مثل ما شـــال دلالــي غــثــا
هـلي بالـدار خلونـي وشـالـو / وخلوني جـعود بطـن شـالـو
على حدب الظهور اليوم شالو/ وحالت دونهـم كـور وسـراب
هـلي ما لبَـسـوا خادم ســملـهـم / وعلى قلوب العدا بايت سم لهم
الناس الأرض، وإحنا سما لهم/ كواكب وسهرن ليــل الدجــى
هلي لو شح قوت الناس عدنا / كرام واليـتيـم يـعـيـش عـدنـا
عكب ما جنا ذرا للناس عدنا / نـتــذرى بالـذي مـالــو ذرا
اعتبر تمر باش مدح عبد الله أهله في هذا الموضع إهانةً وذماً له وحاول أن يعرف حقيقته وحين أخبره الشاعر بنسبه أرسل فارسين من فرسانه خفية إلى عشيرة الحسنة ليتثبت من الأمر فجاءت الأخبار تؤكد صدقه فاعتذر له وعرض عليه أن يزوجه ابنته لكنه أبى وطلب العودة إلى دياره.
ومن الجدير بالذكر أن لعودة الشاعر إلى دياره قصة ذكرها الباحث عبد القادر عياش بقوله: استدعى تمر باش عبد الله الفاضل وأنزله من نفسه المنزلة اللائقة فشكر عبد الله لمضيفه حسن ضيافته واستأذنه في أن يغادر إلى أهله فعرض عليه تمر باش بأن يبقى عنده ويزوجه من إحدى بناته طمعاً في نقاوة أصله وبفروسيته وكريم خلقه، لكن عبد الله كرر الشكر وطلب المغادرة لأنه اشتاق لأهله ودياره فلم يسع تمر باش إلا أن يأذن له وقد وهب له خمسة عشر فحلاً من الإبل وفرساً أصيلة وبيتاً من الشعر وخلع عليه ثياباً فاخرة ووهبه عبداً لخدمته، سار عبد الله مودعاً وأتى الفرات وعبره متجهاً نحو الجنوب ونزل أخيراً بجوار خيام أهله حيث يشاهدون خيمته ويشاهد خيامهم، وسأل القوم العبد عنه فجاء الجواب بأنه شاعر، ولكنهم شكوا بالأمر وطلبوا منه أن يزور شيخ العشيرة فنزل عند رغبتهم وبعد أن استراح قال الحاضرون له: ما دمت شاعراً نود أن تنشدنا بعض شعرك فرحب بطلبهم وتنادت النساء إلى الحرم يستمعن من وراء الخدر وكانت فيهن أخته فراحت تصغي إلى الشعر وتتفرس في وجه الشاعر من خلال فجوات الخدر، فتجلت لها ملامح أخيها عبد الله وتلمست الدلائل والقرائن لقطع الشك، وكانت تحفظ من شعر أخيها فيما تحفظه له بيتين يرثي بهما زوجه وولده، وكان إذا أنشدها ذرفت عيناه الدمع سخياً فاستدعت شاعراً كان في المجلس وألقت إليه بالبيتين وطلبت منه أن ينشد هو البيتين بحيث يسمعهما الزائر الشاعر، وما إن أخذ الشاعر ينشد البيتين حتى هملت دموع عبد الله وكانت أخته ما تفتأ تراقبه من وراء الخدر عندئذٍ قطعت بأنه أخوها وكانت العشيرة قد عدته بين الأموات، فهرعت الأخت وجاءت من وراء الخدر إلى مجلس الرجال تصيح: عبد الله عبد الله.
واحتضنت الشاعر الزائر ولم يتمالك نفسه وصاح: أختي، وتعانقا وكان القوم على وشك التعرف عليه من إنشاده ونهضوا يعانقونه وقام عبد الله ونحر فحوله ونحر أهله مثلها، ابتهاجاً بشفاء فارس العشيرة وبعودته إليها
الفرات