من قالت (إن من ليس له عتيق ليس له جديد كانت صادقة)، ولا بد أن صاحبة هذا القول المأثور سيدة وليس رجلا ، فالنساء أكثر قدرة من الرجال على ربط الماضي بالحاضر.
في الماضي وفي الدير العتيق ، عندما كانت البيوت متلاصقة كتلاصق التوائم في رحم واحدة ، كان كل شيء تقريبا مشتركا بينها الأحاديث والأسرار زيت القناديل مع الكتب التي تنتقل من بيت لبيت بحثا عن المعرفة والحياة
على رأس هرم التشاركية في الدير العتيق كان الماعون وهو أول لفظ عن الطعام ورد في القرآن الكريم وهكذ ا كان يسميه أهل الدير، وهكذا كانوا يتبادلون المواعين بينهم، وتفوح روائح الطعام بين البيوت وتتباهى النساء بها حتى أن أم أحمد تضع في سجل انتصاراتها شهادة زوج جارتها أم محمد أن رائحة البامبا التي طبختها ملأت الدير العتيق كله وسال عليها لعاب من يقف على بعد كيلو متر.
عن هذه الرائحة نتكلم وأين ذهبت الآن؟ لم تتبخر ويختفي أثرها في الأنوف بسبب التطور، هذا كلام لا يمكن أن يقنعنا لأن البيوت حتى عندما صارت شققاً في أبنية بقيت متلاصقة ويمكن شم رائحة باميا أم أحمد من أسفل الدرج فما الذي أسكت صوت الرائحة؟
أنه التأخر وليس التطور بينما كانت أم أحمد القديمة تحصل على الباميا بشكل شبه مجاني لم تعد أم أحمد الجديدة حفيدتها قادرة على شرائها ناهيك عن تزيينها وتزويقها باللحم بعظمه وتوابعها بل حتى النار التي كانت متوفرة لأم أحمد القديمة فقدتها أم أحمد الجديدة وصارت مضطرة أن تطبخ غداءها على السخانة.
لم نعد كما كانت وهذه حقيقة ، لم تعد البيوت متلاصقة كأجنة في رحم واحد لأن رائحة الماعون التي تربطها ببعض تلاشت في برد غياب الخدمات القارس ولهيب الغلاء الحارق ومع تلاشي رائحة الباميا الديرية راحت قيم ورموز أخرى تسقط منا على أدراج المغتربات.