يقع تل صبي الأبيض على الضفة اليسرى لنهر البليخ في الجزيرة السورية العليا، وبدأ فيه التنقيب منذ الثمانينات، من قبل بعثة هولندية من متحف ليدن، يديرها بيتر آكرمانس وقال الباحث لآثاري الدكتور سلطان محيسن في دراسة له: أظهرت الأعمال أن الموقع قد سُكن في ثلاثة عصور متتالية. مرحلة الاستيطان الأولى، تعود إلى نهاية العصر الحجري الحديث بين 6500ـ6000سنة ق.م، كُشف من هذا العصر عن عدة سويات، أهمها السوية السادسة المسماة القرية المحروقة Burnt village التي سميت كذلك بسبب وجود آثار حريق ضخم التهم هذه القرية التي بلغت مساحتها نحو هكتار واحد. شُيدت المنازل على مصاطب متتالية في ارتفاعها وعلى شكل كتل سكنية شديدة الانتظام؛ استُخدم في بنائها اللبن والطين والخشب والقصب، على أساسات حجرية.
وأضاف محيسن: معظم البيوت مستطيلة الأشكال راوحت مساحاتها بين 50ـ90م2، ارتبطت مع بعضها بوساطة أبواب صغيرة، وهناك بيوت لها مداخل من سطحها. كما كُشف عن بيوت ذات مخطط دائري تشبه خلايا النحل(tholos)، وهذا أقدم ظهور لهذا النوع من البيوت في الشرق القديم. تضم القرية المحروقة كميات كبيرة من الأواني الفخارية ذات الألوان الحمراء عموماً والتي تحمل زخارف بسيطة بالحز أو الطبع، وفيها تأثيرات رافدية وأناضولية، بعضها كانت أواني تخزين ضخمة، كما كُشف عن أدوات حجرية وصوانية و أحجار أوبسيديان مستورد من مسافات بعيدة، من المكتشفات المتميزة الدمى الإنسانية من الطين المجفف، معظمها تجسد المرأة، غالباً بلا رأس، مع تركيز واضح على عناصر الأمومة والخصوبة، والكثير من الدمى يحمل حزوزاً تزيينية مختلفة تشبه تلك التي عُرفت من حضارة حسونة في شمالي العراق. التماثيل الحيوانية قليلة ومختزلة، من الطين أيضاً، بعضها حمل قرون حيوانات، مما يشير إلى دورها الديني، وهناك أكوام من الطين ضمت قرون حيوانات برية وجماجمها، تشير إلى مراسم دينية وشعائرية.
وبين الدكتور محيسن أن الاكتشاف الأهم من القرية المحروقة كان الأعداد الكبيرة من الأختام المسطحة المصنوعة من الطين والحجر، وطبعاتها التي حملت زخارف، معظمها هندسية، بعضها ذات أشكال حيوية كالنباتات والحيوانات، وخاصة الماعز ذي القرون الطويلة والغزلان التي جُسدت بواقعية مدهشة. وهناك قطع صغيرة تشبه النقود (فيش) امتلكها معظم السكان، وتدل على علاقات تجارية من بيع وشراء ومقايضة المواد مثل الفخار والنحاس والأوبسيديان وغيرها، وهي تشير إلى وجود نظام إداري ومالي يظهر المستوى الاقتصادي والاجتماعي الذي وصلت إليه القرية التي امتلك بعض سكانها المشاغل وأدوات الإنتاج مؤسسين بواكير المجتمع الطبقي الأول.
وتعود مرحلة الاستيطان الثانية في الموقع إلى الألف السادسة، بين 6000ـ5000سنة ق.م، وهو عصر الحضارة الحلفية التي كانت استمراراً طبيعياً ومحلياً للعصر السابق خلاف ما كان يُعتقد بأنها أتت من خارج المنطقة. أهم ما كُشف من هذا العصر هو الأنواع المتطورة من الأواني الفخارية التي حملت زخارف هندسية ونباتية وحيوانية جميلة جداً، بعضها محلي وآخر مستورد، وهناك البيوت الدائرية من نوع تولوس tholos التي بلغت أوج استخدامها، وتبين أنها لم تُستخدم فقط أماكنَ عبادة، وإنما كانت بيوت سكن وتخزين.
بعد هجران استمر أكثر من ثلاثة آلاف عام أُعيد استيطان الموقع، في مرحلته الثالثة والأخيرة، في العصر الآشوري الوسيط حيث كُشف عن مجمع معماري متميز هو قلعة تألفت من برج حماية وقصر وبيوت سكن وحمامات ومشاغل ومخازن وُجدت فيها الأدوات والأسلحة والحلي والأختام، والأهم من ذلك هي الرُقم الكتابية التي أظهرت أن الموقع يعود إلى الحاكم إيلي ـ إيبادا التابع للملك الآشوري توكولتي نينورثا الذي لم تعمر قلعته طويلاً بل دُمرت في مطلع القرن الثاني عشر ق.م.
الفرات