يزن المحمد- مسرحي من مؤسسي المسرح الحديث في دير الزور، مقيم في النمسا
في سوق التعفيش حيث تتراكم الأشياء المهجورة كشواهد على حياة سابقة.. يكتب ضرام سفان مأساة إنسانية تتجاوز حدود الوقت والمكان .
المسرحية التي كتبت وقدمت قبل سقوط النظام البائد .. تحمل في طياتها ذلك الألم المتراكم الذي لا يعرف تاريخ انتهاء صلاحيته.. هنا.. في هذا السوق القذر حيث تنبح أصوات الباعة.. تصبح الأريكة المستعملة وثيقة هوية لفقدان لا يحتمل.
“حياتنا كلها تعفشت يا هاجر”.. هذه الجملة التي تخرج من فم الزوج كأنها حكم نهائي على جيل عاش بين حلمين.. حلم لم يتحقق ..وكابوس لم يستيقظ منه.. الحوار بين الزوجين يحمل ذلك التناقض الإنساني الأزلي بين الرغبة في النسيان والحاجة إلى التذكر.. هي تريد أن تغادر السوق لأن رائحته قذرة .. وهو يصر على البقاء لأنهم بحاجة إلى أريكة.. لكن الحقيقة أن كليهما يعرف أنهم لن يجدوا ما يبحثون عنه حقاً في هذا السوق أو غيره.
الكنبة هنا ليست مجرد قطعة أثاث ..بل هي أرشيف عائلي كامل.. إنها تحمل رائحة الطفلة لينا التي غادرت بفعل القذيفة اللعينة.. المفارقة المأساوية تكمن في أن الحرب لم تسرق منهم فقط ابنتهم.. بل سرقت حتى الحق في امتلاك ذكرياتهم الخاصة.. عندما تعثر الزوجة على دمية الطفلة مخبأة في الكنبة – في مشهد يذكرنا بأفضل تقنيات الواقعية السحرية – ندرك أن المأساة ليست في فقدان الحياة ..بل في استمرار الحياة بعد الفقدان.
حوار المسرحية يحمل ذلك الإيقاع المكسور للغة المتأثرة بالصدمة.. الجمل القصيرة المتقطعة.. التكرار ..الصراخ ..كلها تعبير عن ألم لم يعد قابلاً للاحتواء.. حتى محاولات الزوج لإبقاء الأمور عقلانية “هاجر توقفي عن الهذيان.. كنبة ولها ملمس ورائحة!” تتحول إلى نوع من الهذيان نفسه.. ففي عالم فقد كل معانيه ..تصبح محاولات التمسك بالمنطق ضرباً من الجنون.
شخصية البائع .. ذلك اللص الذي يتحدث بلغة السوق المبتذلة ..يمثل الوجه الآخر للكارثة.. إنه ليس مجرد بائع.. بل هو شاهد زور على المأساة.. يحاول تحويل الفاجعة إلى سلعة.. حديثه عن الألغام والدمار والخراب بينما يمسك بالمسدس تجسيد للازدواجية الأخلاقية التي تولدها الحروب.. صفقته الأخيرة – أخذ النقود والسماح لهم بالجلوس قليلاً قبل أن تقتلهم القذيفة – هي استعارة كاملة عن كيف تصبح الحياة مجرد مهلة مؤقتة بين دفع الثمن واستلامه.
المشهد الأخير حيث يجلس الزوجان الميتان على الأريكة.. هو ذروة البؤس والجمال في آن معاً .. الموت لا يمنعهما من الحصول على تلك اللحظة من السلام التي حرمتهما منها الحياة.. القراءة.. القهوة.. الموسيقى.. كلها تعود كما في الأيام الخوالي.. لكن هذه المرة كطقوس جنائزية.. صوت الدلالة في الختام يذكرنا بأن المأساة الفردية هي جزء من سوق تعفيش أكبر ..حيث تباع المدن وأهلها كسلع مستعملة.
“عربة آدم” ليست مسرحية عن الحرب.. بل عن ما تفعله الحرب في مفهوم الإنسان عن نفسه. ضرام سفان يكتب هنا نصاً وجودياً بامتياز.. حيث تصبح الأريكة المستعملة مسرحاً للبحث عن معنى في عالم فقد القدرة على تقديم أي إجابات.. النص يحمل ذلك الصوت الخاص الذي يعرف كيف يضحك كي لا يبكي.. كيف يشتري كنبة مستعملة لأنه لم يعد يملك حتى حق الموت الجديد.
يبقى السؤال الضيق ..
ماذا بقي فينا ما لم يتم تعفيشه بعد !!!
ويبقى النص مفتوحاً على احتمالات البقاء .. والوحدة .. والنجاة ..
آدم : من أراد أن يتحدث .. عن العزلة
فليأت إلى هنا .. هنا !!
حيث السماء .. مليئة بالألعاب النارية
والأرض .. كعكة مفخخة !!
وهذا الأحمر .. الذي يسيل في الشوارع
دم .. دم .. وليس توتا شاميا .. يا .. أمل !!
حيث يصبح الدم زينة للشوارع.. و تُختزل العزلة إلى صرخة في فراغ
………………………………………..
ضرام سفان: كاتب ومخرج مسرحي مخضرم من دير الزور، بدأ بالإخراج المسرحي عام 1983 وقدم عشرات المسرحيات تأليفاً وإخراجاً، وأسس أول فرقة مسرحية بدير الزور تألفت من 30 شاباً وشابة، وحصدت أعماله عشرات الجوائز كأفضل مخرج وأفضل نص وأفضل ممثل على شتى مسارح سوريا، توقف عام 2011 والتحق بصفوف الثورة ثم غادر البلاد ليعود إليها مؤخراً ويطلق الحركة المسرحية مجدداً في مدينته دير الزور.
الفرات

