المجاهد زهدي بك الملحم.. رافع علم الاستقلال فوق الجزيرة السورية

 

خاض أهلنا في الجزيرة السورية كباقي أرض الوطن ملاحم بطولية ضد الاستعمار الفرنسي منذ وطئت قدمه الأرض وحتى جلاء آخر مستعمر، وبرز من شيوخ ووجهاء العشائر قادة وطنيون سطر التاريخ بطولاتهم ومواقف العز والكرامة التي خاضوها في سبيل استقلال البلاد واستقلال الجزيرة السورية رافضين ومقارعين كل القرارات التقسيمية الخبيثة التي كان المستعمر يعرضها.

وتحدث الشيخ دحام السلطان أحد شيوخ قبائل الجزيرة السورية وأحفاد أولئك المجاهدين الذين قارعوا الاحتلال الفرنسي عن كيفية خروج المستعمر الفرنسي عن أرض الجزيرة السورية وهي التي كانت السبّاقة بين أخواتها السوريات في ارتداء وشاح البطولة الأرجواني وتأبط بيرق الوطن الأشم.. ما شكّل استنتاجاً طبيعياً ومنطقياً لبأس ووطنية أولئك الرجال والجغرافية التي ينتمون إليها.

وقال الشيخ دحام انه بعد الرجوع إلى العام ١٩٤٥.. لحظة قدوم وفد الحكومة الوطنية إلى مدينة دير الزور والمتمثّل بقائد الكتلة الوطنية في البلاد التي قادت عملية تحرير سورية ورئيس الحكومة آنذاك المناضل الوطني “سعد الله الجابري”.. الذي يعتبر واحد من أهم زعماء النضال الذين قاموا بإعادة سورية واحدة موحّدة.. بعد أن قسّمها الفرنسيون إلى دويلات هشة وهزيلة يسهل السيطرة عليها.. حين حضر إلى دير الزور وبرفقته وزير الداخلية “صبري العسلي” وقائد قوات الدرك العام “إبراهيم حسن قصار”.. والذي قام في طلب المجاهد الوطني الملازم ثان زهدي بيك السلطان الملحم “١٨٩٩- ١٩٨٨”..  الذي يُعد واحدا من أهم المناضلين الوطنيين الأحرار الذين قارعوا الاحتلال الفرنسي على امتداد ساحة الجزيرة السورية.

وقال دحام السلطان انه بالعودة إلى لقاء الحكومة بالمجاهد الشيخ زهدي بيك والاجتماع معه.. الذي درس وتخرّج في الكلية العسكرية في مدينة السماوة بالعراق.. وعُيّن قائم مقام لمنطقة كوكب “شرق مدينة الحسكة اليوم ٨ كم”.. ومسؤول أمن العشائر في الجزيرة السورية.. وعندما عَلِم بدخول الفرنسيين إلى محافظة ريف دير الزور من جهة الشرق ناحية العراق.. توجه زهدي بيك ورجاله إلى ريف الحسكة الجنوبي.. وعسّكر هناك عند الشيخ علي الخليف آل الشيخ عيسى في قرية “الفدغمي”.. ثم انتقل إلى قرية “العلوة” عند بيت السيّد علي العزاوي.. وخلال وجوده هناك نزلت قوة عسكرية فرنسية كبيرة في قرية العزاوي.. والتقى به أحد العملاء المرتبطين بالاحتلال الفرنسي.. واطلعه على كتاب مطلوب فيه القبض على المجاهد زهدي حيّاً أو ميتاً.. موجّهاً من المستشار الإداري لقائد تخوم الفرات الكولونيل “ديوغو”.. فطالبه بالاستلام وتسليم نفسه للفرنسيين.. لكنه رفض ذلك فعاد أدراجه إلى الحسكة.. ليلتقي بقائد كتيبة الخيالة التركية “إسماعيل بيك حقي قوندوز” المتواجد وجنوده في “القشلة” التي تُعرف باسم “ثكنة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص” رضي الله عنه اليوم.. ليُعلمه بدخول الفرنسيين إلى الجزيرة.. ويطلب منه الإمداد بالرجال والسلاح والعتاد للتصدي للفرنسيين.. ولكن الوالي التركي خذله رفض طلبه وقال له: إن وجودنا في الجزيرة انتهى ولم يعد يعنينا الأمر وسنرحل عنكم قريباً؟ وهنا خاب ظنه بالأتراك قبل أن يدخل الفرنسيون مدينة الحسكة بقيادة ضابط الاستخبارات الفرنسية المستشار “تريه” وإلقاء القبض عليه.. ومن ثم اعتقاله وساقاه الجنرالان “فيغان وديوت” مرفّقاً إلى مدينة حلب.. وبوصوله إلى حلب وضعه الفرنسيون تحت أمر الواقع وأفهموه بأنهم لم يأتوا إلى سورية محتلين؟ بل دخلوها شرعنة تحت بند فرض الحماية والانتداب استناداً إلى المادة رقم ٢٢ من ميثاق عصبة الأمم.. التي مُنحت للدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.. وطلبوا منه إدارة الجزيرة والتعاون معهم بناء على ذلك؟ وفي طريق العودة إلى الجزيرة مروا في طريقهم إلى دير الزور.. فوجد أحد أبناء عبد الرحمن الباشا أحد زعماء “قبيلة الملية” برأس العين.. معتقلاً لديهم.. فقال لهم أطلقوا سراحه إكراماً لوالديه وإثباتاً لحُسن نواياكم؟!.. وخلال فترة وجود الفرنسيين في الحسكة لم يلمس منهم سوى الوعود الكاذبة.. فترك الخدمة مستنكفاً!!

ليعلن العصيان العلني ضدهم ويقوم بتأسيس جماعة القمصان الحديدية “نواة الحزب الوطني” في الحسكة آنذاك.. التي دعا إلى تأسيسها النائب الوطني “محمد نوري الفتيّح” حين قدومه من دير الزور إلى الحسكة عام ١٩٢٣.. ليتعرّض بعدها للمضايقات والتنكيل.. قبل أن يصدر بحقه حكم الإعدام ليبتعد عن الجزيرة ويلتجأ إلى العراق حيث أبناء عمومته هناك.. إلا أن تم العفو عنه بعد عدة سنوات من فترة وجوده هناك.. إثر حدوث الاضطرابات التي حصلت في الجزيرة ومنطقة “السفح” برأس العين.. على خلفية مقتل “الكابتن جريناس” على يد أحد أبطال أبناء “الشيشان” هناك..

كما يُعتبر زهدي بيك امتدادا وطنياً لتاريخ والده الشيخ المجاهد الشهيد نائب الجزيرة العليا حماد بك السلطان الملحم ١٨٧٠ – ١٩٣٣” الحافل بالوطنية الذي دفع حياته ثمناً لوحدة جغرافية الجزيرة والفرات.. وارتباطهما بالأرض السورية ورفض فصلهما وانتزاعهما عن الوطن الأم سورية.. خلال المؤتمر الذي حضره مع نواب عن دير الزور والرقة وعدد من شيوخ العشائر.. في مدينة دير الزور عام ١٩٢٧ “أول نائب عن الجزيرة السورية” والنائب الوحيد فيها في المجلس النيابي السوري.. الذي دعا إليه مندوب المفوض السامي الممثل لسلطة الاحتلال الفرنسي آنذاك.. والذي طرح في بداية الاجتماع.. قرار فصل الجزيرة والفرات عن الوطن الأم سورية طالباً الموافقة والإذعان والتصويت عليه.. فما كان من حماد بيك.. إلا إعلان رفض القرار وتعطيل وتفشيل الاجتماع الذي لم يُكتب له النجاح.. وتعرّض مقره انعقاده ومن أذعن لقرارات الفرنسيين للإهانة والرشق بالحجارة والبيض الفاسد من قبل الأحرار الوطنيين في مدينة دير الزور!!! فلم تتوانى سلطات الاحتلال حينها إلا بحل المجلس النيابي.. وإجراء انتخابات صورية وتعيين بموجبها ثمانية نواب عن الجزيرة السورية بدلاً عنه؟؟! كما قامت بفرض الإقامة الجبرية عليه في داره بالحسكة “حارة البيك”.. قبل حقنه بإبرة سامة قاتلة على مراحل.. على يد طبيب جيش الاحتلال الفرنسي بالحسكة الماسوني اللبناني “روحي الصلح”.. الذي قُتل هو الآخر وعلى الفور وعائلته بالكامل على أيدى عدد من مرتزقة الجيش الفرنسي من السنغاليين خشية اكتشاف أمره ولإسكات الحقيقة معه إلى الأبد..؟؟!

وحين حضور المجاهد زهدي بيك إلى مدينة دير الزور قال له وفد الحكومة الوطنية بالحرف هذا يومك!!! ونطلب منك تأمين الحسكة وتطبيق النظام فيها لتحقيق الجلاء واستكمال إنجازه وتحقيقه في باقي مناطق البلاد.. وأضافوا: أطلب ما تحتاجه من القوات قبل أن تنطلق من هنا إلى الحسكة، وهذه الكتيبة التي يرأسها الملازم “حسن خيّر” ستكون تحت إمرتك.. فقام “زهدي بيك” على الفور ملبياً النداء.. بطلب قوة احتياطية من القوات الوطنية المتواجدة في دير الزور ومن أبناء جبل العرب تحديداً.. وهم المعروف عنهم الشجاعة والإقدام بحسب نظرته إليهم.. وسار على رأس القوات الوطنية من هناك بعد أن قام بتجهيز الحملة العسكرية بالسلاح والعتاد والآليات اللازمة.. وساعة دخوله بلدة “السبع وأربعين” الواقعة بين مدينتي الحسكة والشدادي.. عَلِمَ أهل الحسكة بقدوم قوة وطنية إليهم.. وكان بدوره يتواصل مع وفد الحكومة بدير الزور ويُعلمهم بكل تحركاته، ولدى دخوله المدينة من الجهة الجنوبية كان هناك “ميليشيا فرنسية” مرابطة عند “جسر حي غويران الحالي” فلما رآه أفرادها على رأس القوة العسكرية.. لاذوا بالفرار وتحصنوا مع بقية أفراد الجيش الفرنسي المتواجدون بالحسكة.. في مقر القشلة.. “الثكنة العسكرية القديمة المحاذية لموقع سوق الهال اليوم من الجهة الشرقية”.. فعندها دخل وقواته دار السرايا “مبنى المحافظة الحالي” وقام بإنزال العلم الفرنسي ورفع العلم السوري على ظهر دارها.. ومن ثم قام بتوزيع قواته فوق دار السرايا وفي معظم المراكز والمخافر العسكرية في المدينة، وقام بإطلاق سراح جميع المعتقلين لدى سلطات الاحتلال الفرنسي فيها.. وأبرق إلى وفد الحكومة الوطنية المتواجد في دير الزور ليعلمهم بكل ما حصل معه.. والتي لم تتوان عن الحضور إلى الحسكة للاحتفال مع أهلها بفرحة جلاء الاحتلال الفرنسي وسط مهرجان احتفالي كبير تم في ساحة مبنى المحافظة من الجهة الشرقية.. وأثناء مراسم الاحتفال بالجلاء.. دخل الحسكة اللواء الثامن للجيش البريطاني بكامل عتاده وبأسلحته ومصفحاته المدرّعة ودباباته.. وخاطب قائد الجيش البريطاني أعضاء الحكومة قائلاً: لقد دخلنا سورية من أربعة محاور وأصبحنا المسؤولون عن الأمن في البلاد اليوم.. “وجاء ذلك بعد انتصار الحلفاء بقيادة بريطانيا على دول المحور في الحرب العالمية الثانية”.. وطلب من أعضاء الحكومة بتسمية مسؤول عسكري وأمني وقائد لحرس العشائر من قبلهم بشكل فوري.. لكي تكون علاقته مع “الميجر” البريطاني.. فقال له أعضاء الحكومة لقد قمنا بتسمية الملازم ثان “زهدي بيك السلطان الملحم” وانتدبناه لهذه المهمة.. فعندها سُمّيّ قائداً عسكرياً عاماً للجزيرة السورية ومسؤولاً أمنياً فيها.. وبعد مباشرته لعمله الجديد.. كان أول مطلب له وبشكل فوري من قائد قوات الدرك العام “طالب الداغستاني” الذي خلف القصار في المهمة بخلع محافظ الحسكة المدعو آنذاك “وجيه الأزهري” من عمله فوراً الذي كانت له علاقات تخاذل سرية مشبوهة مع من بقي من فلول الفرنسيين.. الذين كانوا يتبعون لحكومة “فيشي” التي انتهى حكمها في فرنسا على يد حكومة “فرنسا الحرة”.. من الذين بقوا متواجدين في “القشلة” الثكنة القديمة.. ولما علم المحافظ بالأمر قام واشتكى إلى الحكومة من زهدي بيك.. إلا أن الحكومة رفضت شكواه وقامت بعزله.. بعد أن تأكدت من حقيقة أمر عمالته مع الفرنسيين.. ثم طلب زهدي من الميجر البريطاني بإخلاء أحد المواقع القريبة من دار السرايا التي كان فيه قوة فرنسية غير مرتاح لوجودها.. إلا أن الميجر رفض طلبه وقال له لن يبدر من الفرنسيين أي موقف عدائي تجاهكم ونحن موجودون هنا.. على إثر ذلك قام بتأسيس دائرة إدارة تنظيم شؤون العشائر.. والتي كانت تتكون من سبعة عناصر وقام بتسليحهم من أسلحة الدرك السوري ثم قام بتطويع ٦٥ فرداً من أبناء أهالي وعشائر الحسكة.. في الوقت الذي كان فيه هذا الرقم هو السقف العددي الأعلى المسموح به في التطويع آنذاك..

وفي إحدى الليالي تعرّض مقر دار السرايا لطلق ناري جاء من المقر الفرنسي الذي كان قد حذّر منه زهدي؟؟! وطلب أثناءها من الميجر البريطاني إخلائه.. فقام بإبلاغ الإنكليز فوراً بهذا الخرق الاستفزازي المتعمّد.. فقام الميجر البريطاني بإرسال لجنة مختصة من قبلهم لتحديد موقع الطلقة ومصدر اتجاهها.. فتأكد الميجر البريطاني من قبل من أرسله بأن مصدر الطلقة هو الموقع الفرنسي ذاته المجاور لدار السرايا؟ وعلى إثر هذه الحادثة تم إخلاء الموقع من القوة الفرنسية.. وفي الوقت ذاته لم يتوان زهدي من توجيه إنذار نهائي للفرنسيين المتواجدين في الثكنة يتضمن منع التجوال والنزول لأي عسكري فرنسي إلى مركز مدينة الحسكة وكل مخالفة وخرق للتعليمات تستوجب المسؤولية ولا ضمان لحياة أي فرنسي يخالف التعليمات.. كما قامت القوات البريطانية بتوجيه إنذار نهائي أيضاً للقوات الفرنسية دعت فيه إلى مغادرتهم أرض الجزيرة السورية.. وبالفعل هذا ما حصل فقد خرج الفرنسيون عن بلادنا بحماية الإنكليز.. وأثناء انسحابهم أرادوا تدمير الجسور وبعض المواقع الحيوية في المدينة.. لكنه فوّت عليهم هذه الفرصة.. بعد أن وضع كامل قواته العسكرية من الجيش والدرك والمتطوعين الوطنيين من أبناء القبائل والعشائر في المنطقة في حماية المدينة وممتلكاتها.. كما طلب من جميع أبناء المدينة الالتحاق بالقوة العسكرية الوطنية واتخاذ أعلى درجات الجاهزية في التأهب لحالة الطوارئ وحماية المدينة وممتلكاتها من المحتلين المندحرين الذين ولّوا عن أرض الوطن إلى غير رجعة فكان النصر وكان الجلاء.

الحسكة – حجي المسواط

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار