منذ الأزل تفرد العامل السوري في كثير من الصناعات واتصف عمله بالإتقان والجودة والبراعة وكان له دور الريادة العالمية في صناعات منها صناعة الأواني الحجرية ويعود عيد العمال العالمي ليذكر بإنجازاته التي قدمها خدمة للوطن والحضارة الإنسانية.
ويقول المؤرخ الدكتور محمود السيد خبير الآثار السوري وقارئ النقوش الكتابية القديمة في المديرية العامة للآثار والمتاحف في تصريح لـ سانا: إن العمل يشكل بشقيه العقلي والعضلي أهم مقومات استمرار الحياة البشرية فالحرفيون السوريون امتلكوا أنامل مبدعة وأفقاً واسعاً ولمسة فنية قل مثيلها في العالم فبرعوا في نحت التماثيل وطوروا تقنيات صناعة الأواني الحجرية عالمياً.
وأشار السيد إلى أن اللقى الأثرية المكتشفة في مختلف المواقع الأثرية السورية توثق معرفة السوريين صناعة الأواني الحجرية منذ العصر الحجري الحديث ففي سورية ظهرت عدة أدوات وأوعية بدائية كانت تصنع من الحجر وتعتبر من أقدم الأوعية الحجرية المكتشفة في منطقة الشرق الأوسط والعالم ففي موقع تل الجرف الأحمر اكتشف أقدم وعاء في المنطقة مزين بنقوش نافرة وأشكال هندسية يعود تاريخ صنعه إلى 9000 عام قبل الميلاد مصنوع من حجر الكلوريت أبعاده 12 سم ضرب 9 سم محفوظ حالياً في المتحف الوطني بدمشق.
وقال الباحث السيد: يعود للسوريين أيضاً الفضل عالمياً في صناعة وانتشار الأواني الحجرية المصغرة المصنوعة من الحجر الكلسي المرمري في نهاية الألف السابع قبل الميلاد ويشهد على ذلك كأسان رباعيا القوائم اكتشفا في موقع تل بقرص الأثري ويؤرخان بالعصر الحجري الحديث ما قبل الفخار “ب” بالفترة الواقعة بين 6400 و5900 ق.م وصنع الكأسان وفق تقنية تشكيل وتجويف الحجر حتى يأخذ الإناءان شكلهما الأساسي ثم تم شحذ الإناءين من الداخل عن طريق استعمال أدوات الصقل الحجرية والتنعيم بالرمل ثم تم تهذيب سطحهما وصقلهما وقد ساهم أسلوب الصقل والتلميع بدقة ومهارة على سطحهما بإظهار عروق الرخام الملونة علماً أن نحت الأواني الرباعية القوائم ذات الفوهات العالية قد تم من خلال استخدام مثاقب على شكل عيدان الكبريت مصنوعة من حجر الصوان.
وبحسب السيد يشهد على توظيف الرخام في صناعة الأواني في سورية قديماً إناءان مشغولان من الرخام الأبيض على شكل أرنب وقنفذ اكتشفا في خرائب البيت المحترق الثاني عشر في موقع تل بقرص الأثري الواقع على الضفة اليمنى لنهر الفرات مقابل مصب نهر الخابور ويؤرخان بالعصر الحجري الحديث ما قبل الفخار بالفترة الواقعة بين 6400 و5900 ق.م ويؤكدان براعة النحات السوري وقدرته على تصوير الشكل المراد نحته بكل دقة وواقعية مع مقدرة فريدة على إبراز دقائق التفاصيل والملامح.
ويملك المتحف الوطني في دمشق حسب الباحث السيد آنية من الحجر المرمري مصقولة من الداخل والخارج عثر عليها في تل الرماد وتؤرخ بحوالي 6250 ق.م وهي من أندر القطع الأثرية الرخامية المصقولة في العالم.
وبين الباحث السيد أن السوريين من أقدم الشعوب في العالم التي صنعت الأواني الحجرية المنزلية من حجر كلسي مطحون وممزوج بالرماد أو القش عرفت باسم الأواني البيضاء وقد اندثرت في مطلع الألف السادس قبل الميلاد بعد انتشار الأواني الفخارية وأقدم هذه الأواني البيضاء يؤرخ بالألف السابع ق.م وهي عبارة عن كوب صغير أو آنية بيضاء مكتملة الصناعة ومصنوعة باليد بتقنية عالية وقد اكتشفت في أقدم سوية أثرية من سويات الاستيطان في موقع تل رأس الشمرا “مملكة أوغاريت” وهي محفوظة الآن في متحف اللوفر بباريس فضلاً عن صناعتهم أواني حجرية مصقولة فريدة بينها طاسة من المرمر الأحمر المصقول اكتشفت في موقع تل الرماد الأثري في محافظة الحسكة.
وتابع الباحث السيد: في سورية اكتشف في المدفن الملكي في قطنا أكثر من 60 وعاء حجرياً مصنوعة من “مرمر أبيض-ألبيستر-سربنتين-عقيق-حجر السماق-الديوريت الصواني” تؤرخ بعصر البرونز الوسيط والحديث وثلاث أوان منها تؤرخ بأواخر الألف الرابع وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد وتعد أكبر مجموعة من الأوعية الحجرية التي عثر عليها حتى الآن في منطقة شرق البحر المتوسط في مجمع أثري نوعي واحد وتقدم أهم دليل في العالم على أن الأوعية المصنوعة من هذه المادة الدائمة على مر الزمن لم يقتصر استخدامها على الطقوس الدينية المتعلقة بالعالم الآخر فقط بل استعملت أيضاً في تلبية متطلبات الحياة اليومية.
وحسب المؤرخ السيد فالسوريون أول من صنع قوارير من حجر العقيق الكريم في العالم ففي سورية اكتشفت قارورة صغيرة من العقيق فريدة من نوعها ونادرة جداً ولم يعثر حتى الآن على مثيل لها على الإطلاق في منطقة المشرق ودول البحر المتوسط والعالم وتؤرخ بالنصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد وتعد هذه القارورة المصنوعة من العقيق من اللقى الفريدة والنادرة جداً عالمياً لأن حجر العقيق لم يستعمل في العالم قبل تاريخ صناعة القارورة إلا لصنع الحلي وهي محفوظة في متحف دمشق الوطني.
وفي الختام يؤكد خبير الآثار السوري أن لسورية دوراً عالمياً موثقاً بالأدلة والاكتشافات الأثرية في تطوير تقنيات صناعة الأواني الحجرية انطلاقاً من العصر الحجري الحديث.