طيلة الفترة الماضية، بدأ يظهر على سلوك ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عناصر المماطلة والمناورة للالتفاف على اتفاق 10 آذار/مارس، الموقع بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي.
هذه المناورات التي جاءت على أكثر من صعيد، سياسيًا وعسكريًا وحتى اجتماعيًا، أخفت وراءها تكتيكات أخذت “قسد” بتطبيقها حسب طبيعة المناطق التي تسيطر عليها، وسنذكرها بالتفصيل، كلٌّ على حدا.
دير الزور… الحيلة والفتنة
ربما تُعدُّ مناطق دير الزور التي تسيطر عليها “قسد” شرقي الفرات، الأقل أهمية بالنسبة لها، وذلك لعدة أسباب، أهمها غياب الحاضنة الحقيقية لمشروعها الانفصالي، نتيجة الطابع العربي الصافي لمجتمع دير الزور. وهنا مربط الفرس.
كون دير الزور في ذيل قائمة اهتمام “قسد” قياسًا بالرقة والحسكة لا يعني أنها ستنسحب منها بكل ودّ وهدوء؛ بل على العكس، لدى “قسد” مخطط خبيث لما بعد انسحابها من المنطقة، هذا المخطط يقوم على ضرب المكون العشائري ببعضه، عبر دفع العشائر غير الحكومية أو الرسمية إلى صدام عسكري معها، واستغلال وجود عناصر من أبناء العشائر في صفوفها، لدفعهم إلى مواجهة أبناء جلدتهم، في محاولة لسحب صفتها العسكرية لاحقًا وتحويل الصراع إلى اقتتال عشائري داخلي.
هذا الصراع سينقسم إلى صفين: الأول يمثل أبناء العشائر الموالين للحكومة السورية، والثاني أبناء العشائر المنضوين تحت صفوف “قسد”، وتهدف “قسد” من هذا المخطط إلى عدة غايات أولها إغراق المنطقة في الاقتتالات العشائرية والثارات، ما يعني إشغال الدولة بملف جديد ومعقد، وثانيها تشويه صورة العشائر عبر إظهارها بصورة دموية وهمجية، بالإضافة لخلق خط دفاع أول لها في معركة وجودها القادمة في شمال شرق سوريا، بطريقة غير مباشرة.
الرقة… خط الدفاع الأكبر
لم تكل “قسد” منذ شهور عن جهودها لتحويل الرقة إلى ما يشبه الحصن العسكري المعقّد، في محاولة لتعزيز قدراتها الدفاعية، وسط تصاعد التوترات واحتمالات التصعيد المستمرة، اللافت في هذه الجهود هو التركيز الكبير على حفر الأنفاق، التي أصبحت اليوم جزءًا أساسياً من البنية التحتية العسكرية للمدينة.
تفيد مصادر محلية بأن عمليات الحفر لم تقتصر على أطراف المدينة أو المواقع الحساسة، بل امتدت إلى معظم أحياء الرقة، حيث تحولت بعض الأزقة إلى مداخل سرّية لأنفاق واسعة، تمتد لمئات الأمتار، وتربط بين نقاط انتشار متعددة.
بعض هذه الأنفاق وُصفت بأنها “عملاقة”، ليس فقط لطولها، بل بسبب هندستها المحكمة، حيث تم تدعيمها بالإسمنت المسلح والحديد، ما يجعلها قادرة على مقاومة القصف الجوي والانهيارات، وتوجد معلومات عن غرف عمليات ومستودعات أسلحة ومخابئ محصنة تحت الأرض، ما يعكس فهماً متقدماً لفن التحصينات.
توفر هذه الأنفاق مرونة تكتيكية عالية في حال اندلاع أي مواجهة، حيث تتيح لقسد التحرك السري الآمن، وتحمي قواتها من الغارات الجوية أو عمليات الإنزال، كما تُربك خصومها وتؤخر تقدّمهم، كما أثبتت تجارب سابقة.
تُعتبر الرقة خط الدفاع الأقوى عن البقعة الجغرافية التي تمثل الهدف الأكبر لقسد: الإدارة الذاتية في الحسكة وعاصمتها القامشلي. وبالتالي، من المتوقع أن تكون معركة الرقة من أشرس المعارك بين قسد والقوات الحكومية، في حال بقيت الأمور على حالها، ولم يظهر حلٌّ سياسي يُجبر “قسد” على تسليم المناطق.
الحسكة… الهدف الأكبر
بالطبع، إليك النص نفسه بعد تحويله إلى أسلوب سردي متماسك دون استخدام التعداد:
تكمن أهمية محافظة الحسكة بالنسبة لقسد في ثلاثة أبعاد رئيسة تتداخل فيما بينها وتُبرز مكانتها الاستراتيجية المحورية، فعلى الصعيد الاقتصادي، تحتوي الحسكة على ما يقارب 40% من احتياطي النفط السوري، إضافة إلى كميات كبيرة من الغاز الطبيعي، ناهيك عن الأراضي الزراعية الخصبة التي تُعد من أهم مصادر إنتاج القمح والقطن في البلاد، هذه الموارد مجتمعة تمنح “قسد” استقلالية اقتصادية نسبية، خاصة في ظل الدعم الذي تتلقاه من القوات الأمريكية المتمركزة في عدد من القواعد داخل المحافظة.
أما من الناحية الجغرافية، فإن موقع الحسكة في أقصى الشمال الشرقي من سوريا، واتصالها المباشر بإقليم كردستان العراق، يمنحها أهمية بالغة كونها تشكل بوابة لوجستية حيوية، تُستخدم في عبور التجارة والدعم العسكري، كما تربط إقليم كردستان العراق بإقليم كردستان سوريا “المنشود”.
على المستوى الاستراتيجي والعسكري، تبرز الحسكة كمركز ثقيل في معادلة الصراع، فهي تحتضن مطار القامشلي الدولي الذي يشهد وجودًا عسكريًا روسيًا رسميًا، كما تُعد ساحة مواجهة مباشرة بين النفوذ الأمريكي والروسي والإيراني، ما يجعلها نقطة احتكاك دائمة على أكثر من صعيد.
إن خريطة المعركة القادمة شمال سوريا توضح أدوار المناطق الثلاث بجلاء، ففي دير الزور، تحيك “قسد” مخططًا معقدًا يستهدف تفكيك النسيج العشائري من الداخل، بينما تستعد في الرقة عبر بناء شبكة تحصينات عسكرية تحت الأرض، تجعل منها قلعة يصعب اقتحامها، وفي الحسكة، تضع ثقلها السياسي والاقتصادي والعسكري، لأنها تمثل جوهر المشروع، وقلبه النابض؛ وإذا ما سقط هذا القلب، فإن الكيان برمّته سيكون مهددًا بالزوال.
بذلك، فإن ما يُسمى بـ”معركة الوجود القسدي” لم تعد مجرد احتمال قائم على توقعات ميدانية أو تحليل سياسي، بل تحوّلت إلى واقع يقترب كل يوم، حتى باتت مسألة وقت لا أكثر.
رامي الفرحان